عمرو حمزاوي –
مشهد أول ـ لاعبو الأحد: أمارس رياضة كرة القدم صباح كل أحد في العاصمة الأمريكية واشنطن. لمجموعة اللاعبين خلفيات مهنية متنوعة، بين محامين ورجال أعمال وأساتذة جامعيين وعاملين ببنوك وشركات استثمارية، باستثناء صديقين مصريين، لا شأن للاعبي الأحد لا بقضايا العالم العربي والإسلامي ولا تثار عادة أحاديث حول السياسات الداخلية أو الخارجية للولايات المتحدة.
الأحد قبل الماضي، تغيبت عن كرة الصباح نظرا لأسفار متلاحقة ولم تكن مرة الغياب الأولى. مساء ذات اليوم، تلقيت رسالة إلكترونية من مجموعة اللاعبين تقول أن غيابي واكبه غياب الصديقين المصريين أيضا وأنهم يريدون الاطمئنان على أحوالنا بعد صدور القرار التنفيذي المتعلق بمنع مواطني دول عربية وإسلامية من دخول الولايات المتحدة ويستعلمون عما إذا كنا في احتياج لمساعدة أو دعم. ثم مضت الرسالة لتعرض علينا برقي حجم المساعدة القانونية والدعم الأسري.
تأثرت للغاية برسالة لاعبي الأحد الذين لا تتجاوز علاقتي بهم حدود كرة القدم، بل ولم أحفظ بعد اسماء بعضهم. وعندما التقيتهم الأحد الماضي، أعادت علي المجموعة عرض المساعدة والدعم وأخبرني المحامين بينهم بتكوينهم لمبادرة طوعية للدفاع عن حقوق ضحايا عنصرية إدارة ترامب وتقديم المشورة القانونية المجانية لضحايا تورط الحكومة الأمريكية في إهدار المساواة بين الناس. شكرتهم على مشاعرهم الطيبة، وذكرتهم بكوني مصريا وبعدم مواجهة أسرتي أو مواجهتي لعقبات بعد لأن مصر ليست على قائمة الدول الممنوع دخول مواطنيها. فما كان من المحامين سوى الإلحاح علي في إخبار من أعرفهم من الضحايا وأسرهم بوجود تلك المبادرة الطوعية وبتشجيعهم على التواصل الفوري.
مشهد ثاني – علم قوس قزح: تسكن أسرتي في منطقة سكنية على الحدود بين العاصمة واشنطن وولاية ميرلاند الملاصقة لها. وغير بعيد عن هذه المنطقة، يسكن السيد مايك بنس نائب رئيس الجمهورية الأمريكية وأسرته منذ أن فازت بطاقة ترامب-بنس في انتخابات 2016. للسيد بنس مواقف رافضة لإقرار الحقوق والحريات الشخصية الكاملة للمثليين جنسيا، وله مواقف فاضحة في رجعيتها بشأن حقوق المرأة ومن بينها الحق في الإجهاض.
من يمر بجوار بيت بنس، سيكتشف سريعا وضع العدد الأكبر من البيوت المحيطة به لعلم «قوس قزح» الذي يرمز للمطالبة بالمساواة المطلقة بين الناس بغض النظر عن تفضيلاتهم الجنسية والاعتراف المجتمعي بضرورة مناهضة التمييز ضد المثليين جنسيا إن فيما خص القوانين المنظمة للحياة الخاصة أو في الحياة العامة. يبدو أن الكثافة العددية لعلم قوس قزح المرفوع على البيوت المحيطة ببيت بنس قد أوصلت رسالة رفض مواقف نائب الرئيس ومناهضة مواقف إدارته بجلاء دفع الرجل وأسرته إلى تحاشي الظهور العلني في منطقتهم السكنية أو التعرف الأولي على الجيران وفقا للتقاليد الأمريكية. هي، إذن، عزلة إجبارية تلك التي فرضها «جيران نائب الرئيس» عليه وعلى أسرته.
وحين سألت صديقا لي يعيش بجوار بيت بنس عما إذا كان علم قوس قزح المرفوع على بيته سيبقى وإلى متى، قال أن رمزية العلم هي رمزية مقاومة سلمية لإدارة رجعية وظالمة وأنها ستبقى حتى تتغير سياسات إدارة ترامب-بنس أو ترحل. ثم أضاف أن البيوت رافعة العلم كونت هي أيضا مبادرة طوعية للدفاع عن قيمة التنوع وقيم المساواة بين جميع المواطنين والمقيمين (الشرعيين وغير الشرعيين) في منطقتهم السكنية وصون حقوقهم إزاء عنصرية إدارة ترامب-بنس، وأنهم وضعوا خطة للضغط على أعضاء الكونغرس الذين يمثلون منطقتهم (بين مناطق أخرى) لمعارضة سياسات الإدارة وتعطيلها قدر الإمكان وخطة إضافية للتواصل مع السلطات المحلية في العاصمة واشنطن وولاية ميرلاند لحملهم على رفض قرارات ترحيل المقيمين غير الشرعيين المتوقع صدورها قريبا من البيت الأبيض. وبدأت المبادرة بالفعل في جمع توقيعات المواطنين والمقيمين، وتتبنى حاليا هدف إعلان واشنطن ومريلاند «إقليمين آمنين» لبقاء المقيمين غير الشرعيين.
مشهد ثالث – يوم التعاطف الإلكتروني: كان هذا المسمى هو ما أطلقته على اليوم التالي لإصدار الرئيس الأمريكي ترامب للقرار التنفيذي المتعلق بمنع دخول مواطني بعض الدول العربية والإسلامية. فقد تلاحقت رسائل التعاطف والتضامن على بريدي الإلكتروني من زملاء وأصدقاء وطلاب سبق لي أن درست لهم في جامعة ستانفورد، وجمع بينها التعبير الصريح عن رفض قرار الرئيس وعن الاستعداد لتقديم الدعم لضحايا أعرفهم شخصيا أو أعلم باحتياجهم للدعم القانوني والأسري المالي. احتوت رسائل عديدة على رصد لما قام به من أرسلوها من نشاط فعلي على الأرض لمناهضة عنصرية ترامب، بين احتجاجات سلمية أمام المطارات وبداخلها وبين تكوين مبادرات أهلية للدفاع عن حقوق الضحايا وبين فتح حسابات بنكية لجمع التبرعات وتنسيق الدعم الأسري والمالي لذوي الضحايا.
وجاءت صياغة رسائل التعاطف والتضامن في لغة راقية ومؤثرة للغاية. تضمنت الرسائل إشارات إلى الشعور بالخجل الشديد من «فعلة رئيس منتخب»، إلى الرغبة في الاعتذار مني ومن العرب والمسلمين عن قرار عنصري ينافي قيم المساواة وقبول الآخر التي جعلت من الولايات المتحدة يوما المجتمع المتقدم والحر الذي كان وجهة الباحثين عن بدايات جديدة لحياتهم، إلى تسجيل حزنهم العميق على تنصل رئيس منتخب من مسؤولياته الدستورية التي تلزمه باحترام المساواة والحرية وعدم التورط في أفعال وسياسات تمييزية.
هذه هي أمريكا الأخرى، أمريكا المناهضة للعنصرية والتمييز، أمريكا الجموع التي خرجت إلى المطارات للاحتجاج على القرار التنفيذي، أمريكا المجتمع المدني الذي حرك فرق المحامين للدفاع عن حقوق الضحايا والشروع في مقاومة القرار قضائيا، أمريكا المواطنين الراغبين في المساعدة الواعية والذين يرون في التنظيم في مبادرات أهلية وسيلتهم للضغط السلمي على إدارة يرفضون سياساتها. هذه هي أمريكا الأخرى التي لم تنتخب ترامب-بنس، وتريد اليوم تحجيم الأضرار التي تلحقها إدارتهما بمجتمع لم يزل حرا.
(القدس العربي)