د.نزار قبيلات
المحدّق في المشهد السياسي الأردني يلحظ من دون استعصاء تقابل تيارين سياسيين اختزلا الآراء والمواقف الداخلية والخارجية للكيان الأردني؛ تياران اصطدما مراراً تحت القبة وفي الديوان الملكي وفي المناهج الدراسية وفي ملفات ووزارات حسّاسة.
فبعد تقلص حضور الأحزاب الأردنية العابرة للوطن وتكلّس بعضها لا سيما تلك المتمثلة بالأحزاب القومية والماركسية انضم حزب الأخوان المسلمين وجماعته مؤخراً لزمرة الأحزاب تلك التي انقطع حبل الوصل بينها وبين قواعدها الشعبية، فتلك الأحزاب لم تعد من صميم الشعب الأردني، بعد أن راحت ثنائية الهوية لضفتي النهر الأردني تلعب دورها وتفت في عضد هاتيك الأحزاب التي أمعنت في الفشل وأحبطت المواطن والحكومات ولم تقم بدورها إزاءهما فتنجز شيئاً من متطلبات الإصلاح الوطني وواقعه المتشابك، فبعض تلك الأحزاب كان يعتاش على شعارات من الحرب العالمية الثانية ومن سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم؛ شعارات تدعي المقاومة والبطولة الخرافية وتريد تحرير فلسطين وتوحيد العرب وعودة الفتوحات الإسلامية لمدينة غرناطة، في وقتٍ يعاني المعلم في المدارس الأردنية الحكومية من رداءة أوضاعه و تهمّش دوره المجتمعي وتراجع عطائه…
وفي استجابة منطقية لمعطيات الحداثة وتغيرات العولمة والحوسبة والانفتاح برزت حاجة الأردنيين للتجديد والتحول نحو المعاصرة والاستنارة في ظل عالم يشهد عملية شدّ وجذب من قبل ثقافة التقبل من جهة وثقافة الانغلاق والتشبث من جهة أخرى، وعليه انعكس هذا الطرح على أصحاب التوجه الذي يريد مغادرة المربعات الأولى ومغادرة “التربيعة” التي أتقنها أصحاب الكلاسيك والمحافظون وأعمدة اليمين المتشدد في الهوية والوطنية الصمّاء، في حين ظهر تيار يدعو للاستنارة والمضي نحو العتبة القادمة، ومن دون الالتفات للخلف او التباكي عليه، وسريعاً وهكذا من دون تشكيل لمكاتب حزبية وجمعيات تعاونية وخيرية اشتبك الطرفان تحت عناوين متفرقة من الانفتاح و الانغلاق، وخير دليل على ذلك معركة المناهج الأخيرة، بيد أن “أم المعارك” كانت بين تيار المبادرة النيابية في البرلمان صاحب المفهوم البرلماني الجديد وبين عتاة المجلس من اليمين المحافظ، فقط صار أن اشتد النقاش بين المخضرم الدغمي والعتيق الحمارنة، وتبين لاحقاً أن الملف الأردني برمّته ما زال أسيراً لقوى تريده مغلقاً ويبقى على ما هو عليه، وبين قوى تريد أن تنقله إلى مساحات جديدة من التبدل والتجريب، ليس هذا وحسب فلدى كل منهما مراكز قوى جلية، إلا ان النتيجة تجلت في ان ثقافة الاعتراف وعدم “دسّ الرأس” في التراب ما زالت عصية غير مدركة؛ فقد صار أن حاولت المبادرة النيابية في المجلس السابق زحزحة بعض القضايا العالقة والمكدسة في رفوف صناع القرار الأردني غير أنها فشلت نوعا ما وذلك حين واجهت ثِقلاً وتجبراً هائلاً من كلاسيك المرحلة.
بيد أن حاجة الأردني اليوم لتغيير مفاهيم اقتصادية واجتماعية تمس التعليم والشباب والثقافة والزراعة والصناعة صارت حاجة ماسة للغاية، وعلى الأردنيين بما أنهم وصلوا اخيراً لهذه الثنائية التي ستنتج يوما ما توافقاً يخلص مجتمعنا وحياتنا الحزبية من قيود الماضي وصوره أن يهيئوا أنفسهم وبيوتهم ومدارسهم لثقافة التقبل لا الإقصاء، ثقافة المحاورة لا المجادلة، ثقافة الاحتواء لا الانزواء، ثقافة الانفتاح لا الانغلاق، ثقافة الأنا والآخر معاً نحو المستقبل.