ابراهيم نصر الله – في الماضي كانت هناك أخبار طريفة فعلاً، أما اليوم فهي قليلة، أين ذهبت البهجة، أين ذهبت ابتسامات العالم؟
كنا نقرأ الصحيفة بدءاً من صفحتها الأخيرة، ودائماً، كان هناك، ما يشرح القلب، ويبهج الروح، وكان وجود الكاريكاتير في رأسها، بداية جيدة للنهار، رغم ما يحمله الكاريكاتير عادة من سخرية سوداء.
عملتُ في الصحافة عقدين من الزمن، وكانت الصفحة الأخيرة، هي الأكثر أهمية للقراء، بعد الصفحة الأولى، التي لم تكن أيضاً مثلما هي اليوم، فالموتى كان عددهم أقل، والصور كانت أقل بشاعة. ولم يكن الدم هو سيد العناوين الكبيرة والصغيرة أيضا، فثمة اهتمامات كثيرة للقارئ، وحياته اليومية موضع رعاية باستمرار. كنا نرى خبرًا من المفترض أن يكون في الصفحة الأخيرة، منشورًا على ثلاثة أعمدة في الأولى، في رأسها، كأن يكون: وزارة التموين تعلن عن وصول شحنة من الأرز الفيتنامي. وكان الأمر مبهجاً للبعض لأن الأرز وصل بعد انتظار طويل! ومبهجاً للبعض الآخر، وهو يرى في الخبر بعًدا سياسياً، فقد استطاع الأرز الفيتنامي أن يهزم الأرز الأمريكي على ساحتنا!
لكن الصفحة الأخيرة كانت تستحقّ اسمها الذي يطلق عليها عادة، وهو غالباً: الاستراحة. و فيها تجد خبراً مثل: (العلماء الألمان نجحوا في التحدّث مع الضفادع)، فيبتهج قلبك وأنت ترى السلام والتفاهم يعمّ بين الخلائق! ويذهب خيالك بعيداً نحو كائنات أخرى تتمنى أن يفك الألمان شيفرة لغاتها، وتتخيل جلسات لطيفة في حدائق الحيوان، بين الناس وحيواناتهم المفضلة، والأحاديث العميقة التي لن تنتهي بصورة مفجعة، مثل تلك الأحاديث التي أصبحت تدور بين أصدقاء العمر وتنتهي بمقتل أحدهم، الأحاديث التي باتت تتسلل نحو صفحة الاستراحة، مثل: ذهبا في رحلة إلى البحر، وقتل أحدهما الآخر لأن كلاً منهما أصر على دفع حساب المطعم.
في ذلك الزمن البعيد، كنت أقرأ الصفحة الأخيرة، المبهجة، صباحًا، وأؤجل الأولى للمساء، وأنا أقول لنفسي: من العبث أن يبدأ المرء يومه بكل هذا الموت أو الموات، وهو يسعى لإقناع نفسه، قبل غيره، أن الحياة لم تزل ممكنة، بل ممكنة جداً على هذا الكوكب.
لست أدري من ابتكرَ فكرة الصفحة الأخيرة الخفيفة! حيث الأخبار التي تبتعد عن العام وتذهب للخاص، للبشر، بطرائفهم وغرائبهم. لكنني أظن أن صاحب الفكرة قد هُزِم في عقر فكرته، لأن الصفحة الأخيرة، منذ سنوات طويلة، لم تعد أقل قسوة من الصفحة الأولى، بسبب ندرة الأخبار المفرحة ربما، ولا أبالغ إذا قلت إنني في فترة من الفترات، بدايات الألفية الثالثة،، بت أخفي هذه الصفحة (الخفيفة) عن ابني وابنتي اللذين تجاوزا أيامها العاشرة، بسبب ما تحمله من طرائف كابوسية:
(النمل يلتهم عين هندية مصابة بالسكري وهي ترقد في المستشفى)، (أم تضع طفلها أمام القطار)، (دراسة: طفل سعودي من بين كل أربعة يتعرض للتحرش الجنسي)، (ممرضة يابانية تنتزع أظافر مرضاها لتُخفف من توترها!)، (عجوز في الثمانين يقتل زوجته بسبب ملعقة سكر)، (عائلة من الشامبانزي تتبنى طفلاً نيجيرياً!)
وهذه فعلاً، من الأخبار التي وجدتها في صفحات مؤرشفة لدي!
منذ أسابيع أراقب الصفحات الأخيرة، لأن فكرة هذا المقال ألحّت عليّ. ما اكتشفته، أن العالم أصبح أكثر مأساوية، ولا يبالغ المرء حين يقول إن عدد القتلى في الصفحة الأخيرة، الخفيفة، لا يقل عن عدد القتلى في الصفحة الأولى أبداً. من حصيلة القراءة وجدت التالي: السرطان يفتك بـ 160 ألف سوداني في 2016. هددها، مازحًا، بإلقاء ماء النار على وجهها، فألقت بنفسها في النيل، وماتت. أفغاني يقطع أذنَي زوجته ثم يلوذ بالفرار. نقل فتاة أمريكية إلى المستشفى لإخراج أفعى من أذنها! رجل يقتل أطفاله الخمسة وزوجته وشقيقته ثم يستسلم للشرطة. أغنى 1٪ من سكان العالم يمتلكون أكثر مما يمتلكه بقية العالم. مرشد سياحي قتلته التماسيح في جنوب إفريقيا، ومدرب التهمه النمر في القاهرة، والخبران الأخيران يوضحان، بالطبع، فشل العلماء الألمان الذي لم يعلن عنه، في مهمتهم، إذ لم يحققوا شيئا منذ الحديث مع الضفدع، تلك التجربة التي كانت لها نتيجة واحدة، على ما يبدو: هي ازدياد (النقّ) البشري في كل مجال.
ولا أبتعد كثيراً، حين أقول إن المقالات التي كان يكتبها الكتاب، على الصفحة الأخيرة، كانت ذات عناوين لطيفة، وموضوعات عامة جميلة، تنتزع الابتسامة منك كقارئ، رغماً عنك، عكس ما أصبحنا نفعل الآن، نحن كتاب الصفحات الأخيرة! بعد أن أُصِبنا بالأوبئة التي عمّت الصفحات الأولى على نحو غير مسبوق، وغدت نجاتنا من طوفانها، أمرًا مستحيلاً، كي لا ينطبق علينا المثل الشعبي، إذا ما ابتسمنا: الناس في إيش وإنت في إيش!
وبعد:
جارةٌ سوفَ تصرُخُ في وجهِ جارَةْ
هكذا فجأةً، دونما سببٍ واضحٍ، في صباح جميلْ!
رجلانِ سيصطدمانِ على درجاتِ البنايةِ ينتهيانْ
قاتلًا وقتيلْ!
امرأةٌ ستراهُ يُحدِّقُ فيها، ولكنّه كان أعمًى
ستصرخُ ثائرةً: يا قليلَ الأدبْ!
شاعرٌ سيفرُّ من الموتِ عبر الحدودِ لينجو
فيُشْعِلُ حربْ
.. وبارجةٌ رفَعتْ خطأً درجاتِ الحرارَةْ
حينَ مسَّتْ مياهًا مُعادِيةً
هكذا فجأةً، ستزولُ الحَضَارَةْ!