محمد الرميحي – لا يمكن أن نجزم أن التاريخ يعيد نفسه، ولكن من جانب آخر يقدم لنا بعض الحكمة والأمثلة في تكرار بعض أحداثه التي يمكن أن تتقارب في النتائج ويُنتبه إليها في التحليل، وإن اختلفت الأسباب. الملف الأكثر تداولاً في الساحة هذه الأيام يرتكز على سؤال عام: ماذا يُريد السيد دونالد ترمب أو لا يريد في العلاقات الدولية، أو بالدقة ما خطوات الإدارة الجديدة تجاه مناطق ساخنة في العالم، ومنها منطقتنا العربية، وبالأخص حوض الخليج العربي؟ انسحبت بريطانيا من شرق السويس ومن حوض الخليج في نهاية ستينات القرن الماضي، وكان السبب الرئيسي هو «الاقتصاد» الذي أثقل كاهل ما كان يسمى بـ«الإمبراطورية العجوز!». ويواجه الرئيس الجديد في البيت الأبيض ملف الاقتصاد في بلاده بجدية كاملة، وحول ذلك الملف تدور المناقشات، وترسم السياسات وتتعدد المدخلات وتخاض الصراعات. من الأوفق أن نرى الأمور كما هي، فالحديث عن منع اللاجئين من الدخول إلى أميركا وطرد العاملين غير الشرعيين من الولايات المتحدة، وبناء جدار مع المكسيك، وإعادة النظر في اتفاقية «النافتا» الاقتصادية، وإرجاع الشركات الأميركية من الخارج إلى الداخل، وتحميل أوروبا عبئًا معقولاً من نفقات حلف الأطلسي، وتمويل المنطقة العازلة المقترحة في سوريا من الميزانيات العربية، وغيرها من الملفات التي يتناولها المتخصصون في الإدارة الجديدة بجدية ملحوظة، كلها موضوعة في إضبارة واحدة هي «الاقتصاد»، وزيادة فرص العمل في الولايات المتحدة التي تأخذ لها مظلة آيديولوجية، تسمى لدى الإدارة الجديدة عودة العظمة للولايات المتحدة، تلك الآيديولوجيا التي أصبحت توراة الإدارة الجديدة هي التي توجه الكثير من السياسات! أن يقال كل ذلك هو السهل، أن يحول إلى سياسات على الأرض هو الصعب، فقد بدأت الإدارة الجديدة تنزف في جبهتين؛ في الداخل من خلال الصراع مع القضاء وأول خروج سلبي لأحد كبار الإدارة، هو مستشار الأمن القومي، الخطوة التي لها ما بعدها، وفي الخارج بفقد الحلفاء وإمعان في إثارة الأصدقاء. الإدارة الأميركية الحالية تذكرنا بوضع بريطانيا في نهاية الستينات، الاقتصاد يضغط على السياسة. ويدفع متخذ القرار ليس في أميركا وحدها بل وفي أوروبا أو معظمها إلى الاتجاه المتسارع لإيجاد صيغة في السياسة الدولية غير مسبوقة، أو غير تقليدية على الأقل، حيث الصيغة القديمة المعروفة بالتدخل النشط، والتي استمرت لسنوات طويلة، واضح أنها أخفقت في الحفاظ على الأمن للدول الأصغر، ووضعت أعباء اقتصادية على الدول الأكبر. كما أن الغرب الديمقراطي، كما عرفناه، يمر بأزمة حقيقية، وتتوجه تلك الشعوب في مجملها لإحياء «القومية الشرسة» والانعزال عن الآخر، وفي شرقنا، نتيجة ذلك الانسحاب، تسود الفوضى غير المنظمة وتتفاقم ظواهر العنف والقسوة والحروب، خاصة في المحيط العربي وبقربه، ونعيش في زمن اللااستقرار وعدم اليقين. تلك المتغيرات تركت وتترك آثارًا هائلة من المعاناة، وتزيد درجات التطرف الديني والمذهبي والعرقي، ويتعاظم دور المنظمين إلى مجموعات التطرف كجماعات ما دون الدولة أو دول بعينها، حيث ترى تلك الجماعات والدول أنها على يقين ثابت بأن منهجها هو الأسلم كي تسير المجتمعات والشعوب على هديه، سواء كان ذلك التطرف صلبًا أو ناعمًا، إلا أن النتيجة النهائية من كل تلك المتغيرات أن القواعد التي اتبعت في العلاقات الدولية بدأت تتغير إلى غير رجعة، الخاسر من يرى أو يفكر أن الأمور يمكن أن تعود إلى ما كانت عليه، أو تستمر كما هي.
تصريحات الإدارة الأميركية التي تبدو للبعض أنها تؤكد أن السياسات مستمرة كما كانت، هي فقط تصريحات لكسب الوقت وقنابل دخانية، تخفي التوجه الحقيقي، فواضح أن المزاج العام الأميركي والأوروبي يزحف بعيدًا عن المبادئ التي اعتمدت على الأقل ما بعد الحرب العالمية الثانية، هي ليست صيغة «القومية الفاقعة» التي سميت الفاشية أو النازية، لكنها ليست بعيدة عنها إنما بثوب جديد، وهي ليست أيضًا تناطح الكبار، كما حدث في الحرب الباردة، هي شيء جديد، يمكن أن يسمى توافق الكبار، وترك الأصغر يعتنون بمشكلاتهم ويطفئون حرائقهم بمعرفتهم.
ماذا يعني كل تلك التغيرات لمنطقتنا؟ يعني أن القوى الإقليمية سوف تأخذ صدارة التحرك في الإقليم. ليس هذا ضربًا في الخيال ولا هو موقفًا عاطفيًا، بل معتمد على مجموعة من الظواهر السياسية التي تتجلى أمامنا. السيد رجب طيب إردوغان، زار بعض عواصم دول الخليج الأسبوع الماضي دفعًا لمشروعه الإقليمي، ونشرت الصحف بعض تصريحاته؛ ففي محاضرة له في المنامة لم يتردد السيد إردوغان عن القول إن هناك «عنصرية فارسية تسعى إلى تقسيم العراق وسوريا عبر الطائفية!». ومن جهة أخرى تخرج المظاهرات في طهران منددة بالسياسة الأميركية الجديدة التي يتوقع الإيرانيون أنها معادية لهم، ويدينون حلفاءها في الخليج، وقام بعض المتظاهرين بالإساءة إلى بعض القادة العرب! ثم تأتي أخبار من طهران أن الفاعلين أحيلوا إلى التحقيق، ذرًا للرماد في العيون! بعدها مباشرة يصل السيد حسن روحاني رئيس الجمهورية الإيرانية إلى كل من مسقط والكويت في زيارة على الأقل لم تكن متوقعة وبهذه السرعة، ثم نجد أن روسيا الاتحادية تستقبل وفدًا مفاوضًا من الكرد العراقيين والسوريين والإيرانيين، تلك الأفعال والتصريحات هي «القنابل الدخانية» أما ما وراءها فيعني أن المنطقة تشهد صراعًا من قبل القوى الإقليمية للهيمنة والتسيد وبسط النفوذ، على حساب الدول العربية المحيطة، وخصوصًا الخليجية. بل إن مظاهر تقسيم الإقليم إلى مناطق نفوذ طفيلية تعيش على رضا وحماية القوى الإقليمية، قد ظهرت بوادره.
التحرك الإيراني لافت للنظر، فهي، أي إيران، عملت في فترة طويلة سابقة كحاجز اعتراض أو قوة صد أمام آمال شعوب المنطقة وتطلعاتهم تحقيقًا لمصالحها؛ فقد عملت على إضعاف الدولة اللبنانية من خلال خلق قوة مسلحة مذهبية، وعلى خلخلة الدولة العراقية من خلال التدخل لتغليب مكون عراقي على آخر، بل خلقت انشقاقات بين المكون العراقي الواحد مما ينذر بحرب أهلية من أجل تسهيل السيطرة على البلاد، ثم اعترضت وصدت آمال الشعب السوري وتطلعاته، في بناء دولة حديثة وطنية، من خلال مساعدة واسعة لنظام لفظه أهله وضاق بهم تنكيله وقمعه. إيران لمن يتعامل معها يجد أنها تتحدث بلسانين، وتفعل على الأرض مخالفة لما تتفق عليه على الورق، وتُخفي أكثر مما تُظهر، ولن تختفي الشهوة الإيرانية في التوسع والسيطرة بمجرد الأماني والكلام المعسول! فلديها آيديولوجيا مرتبطة بطبيعة نشأتها! فهي على سبيل المثال تصر على التعامل مع دول الخليج فرادى! إذا أخذنا بهذا التطور الصاخب في المنطقة، فليس أمام دول الخليج بصراحة وبوضوح إلا الذهاب إلى شكل من أشكال الوحدة، التي ترتب قوة ثالثة في المنطقة لها قدرة المعادلة، تستطيع الوقوف ندًا حقيقيًا للقوتين الكبيرتين تركيا وإيران، وقتها يمكن الحديث مع هاتين القوتين من مكان الندية، لا من مكان الأمل في احترام السيادة والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية. فالقوى الإقليمية اليوم، بعد انسحاب وشيك للولايات المتحدة من «شرق السويس» تتجدد شهيتها، كما فعلت قبل نصف قرن تقريبًا، عند انسحاب بريطانيا، والخيار واضح وجلي بحلوه ومُرّه! فقط علينا انتقاء المسار!!
آخر الكلام:
سقوط أحد أركان الإدارة الأميركية (مستشار الأمن القومي) قبل حتى انقضاء شهر من تسلم الإدارة الجديدة لمهامها، يشي بنشوء صراع مبكر قد يتصاعد إلى تعطيل آليات الإدارة الجديدة، وقد يقود إلى الأسوأ!