يحيى الكبيسي – انطلقت عمليات استعادة الجانب الأيمن من الموصل يوم 19 فبراير/ شباط، وقد اجمع كل المراقبين على أنها المعركة الأصعب لأنها ستحدث في مدينة الموصل القديمة ذات الأزقة الضيقة، والبيوت المتلاصقة المتهالكة في معظمها، والتي يقدر عدد المدنيين فيها بين 700 ـ 900 ألف، وهم يعانون اصلا من ظروف معيشية سيئة للغاية بسبب النقص الحاد في المواد الغذائية والإمدادات الطبية بعد الحصار الذي تعرضت له المدينة في الأشهر الخمسة الأخيرة.
وتأتي هذه المعركة في سياق متغير مهم، هو تولي الجنرال السابق جيمس ماتيس وزارة الدفاع الأمريكية تحت إدارة الرئيس دونالد ترامب. وهذا المتغير كانت له نتائجه المباشرة على استراتيجية المعركة. فالجنرال ماتيس سبق له أن شارك في معركتي الفلوجة الاولى في نيسان/ ابريل 2004، ومعركة الفلوجة الثانية في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام نفسه. وكان المخطط الرئيسي للمعركة الثانية التي أطلق عليها أمريكيا اسم «شبح الغضب». وقد كانت المعركة الأولى التي خاضها الأمريكيون معركة مدن تقليدية مع المقاتلين الذين سيطروا على مدينة الفلوجة، واستمرت المعركة على مدى شهر كامل (1 نيسان/ ابريل ـ 1 مايس/ ماي 2004)، انتهت بانسحاب القوات الأمريكية وتسليم المدينة إلى قائد عسكري عراقي سابق بعد اتفاقية وقعت بين الطرفين. أما في المعركة الثانية فقد اعتمد الأمريكيون، بناء على خطة ماتيس، على الكثافة النارية الهائلة لقصف المدينة بمختلف انواع الأسلحة، قبل اقتحامها، بديلا عن معركة مدن تقليدية، وانتهت المعركة بالسيطرة على المدينة خلال مدة قصيرة نسبيا (7 ـ 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2004)، ولكن مع تدمير المدينة بشكل هائل.
وسبق لماتيس أن كان مسؤولا عن عملية عسكرية أخرى، عندما أمر في أيار/ مايو 2004، بقصف خيمة في صحراء الانبار على مقربة من الحدود السورية، قتل فيها 42 مدنيا عراقيا، تبين لاحقا انها حفلة عرس، ولكن ماتيس دافع عن قراره على الرغم من الصور الموثقة التي أثبتت أن حفلة عرس حقيقية كانت تقام في المكان!
لقد سبق لنا أن أشرنا في مقال سابق مع بداية انطلاق معركة استعادة الجانب الأيسر من الموصل في 17 تشرين الاول/ اكتوبر 2016، إلى أن الأمريكيين يشرفون بشكل مباشر على التخطيط للعملية، وعلى الرغم من التوقيت السياسي المرتبط بموعد العملية (الانتخابات الأمريكية)، إلا أن إدارة أوباما، كانت حريصة على عملية عسكرية يتم فيها تحييد سلاح الجو إلى حد بعيد، فضلا عن التحييد التام للقصف الصاروخي والمدفعي. أي اعتماد حرب مدن تقليدية يتم فيها الاعتماد بشكل أساسي على قوات مكافحة الإرهاب بوصفها الوحيدة المؤهلة لمثل هذا النوع من العمليات. لذلك استمرت هذه العملية لفترة طويلة، امتدت على مدى أكثر من ثلاثة أشهر (19 تشرين اول/ اكتوبر ـ 24 كانون الثاني/ يناير)، مع تدمير لم يتجاوز 20٪ من منشآت المدينة، فضلا عن أعداد غير معروفة من الضحايا المدنيين لكن الواضح ان الخسائر في صفوف المدنيين لم تكن كبيرة إلى الدرجة التي يمكن ان تشكل مأخذا على هذه العملية، هذا مع تكتم الجهات الرسمية العراقية المعهود حول عدد الضحايا.
في معركة الجانب الأيمن تغيرت الصورة تماما! فعلى عكس عملية الجانب الأيسر، الذي اعتمدت على ثلاثة محاور رئيسية، غربي، وجنوب شرقي، وشمالي، ثم فتح محور رابع في مرحلة لاحقة غربي المدينة أيضا.
تم التركيز في معركة الجانب الأيمن على محورين رئيسيين؛ جنوبي، وجنوبي شرقي. في حين اعطيت للفرقة المدرعة التاسعة، التي اشتركت في معركة الجانب الأيسر، مهمة التطويق والعزل من الجهة الشرقية من جهة، صعودا إلى محاولة لقطع الطريق المهم بين الموصل وتلعفر ولكنها لم تستطع تحقيق أي تقدم حقيقي حينها. اما المفارقة فهي أن المحور الاهم استراتيجيا، وهو المحور الجنوبي، لم يمنح هذه المرة إلى قوات مكافحة الإرهاب، وإنما إلى قوات الشرطة الاتحادية، غير المتخصصة بهذا النوع من الحرب المتعلقة بمعارك المدن! وقد اتضحت الصورة لاحقا، عندما وجدنا هذه القوات تستخدم كثافة نارية مفرطة، وغير مسبوقة، لضرب الأحياء السكنية المكتظة بالسكان، في محاولة منها لتدمير العدو، من دون الاضطرار للدخول في معركة مدن تقليدية، وكان واضحا أن هذه الاستراتيجية، التي سبق أن استخدمت في الرمادي وبيجي، وأدت إلى تدمير المدينتين تدميرا وصلت نسبته إلى ما بين 80٪ و 100٪. كان هدفها اولا الحسم السريع للمعركة زمنيا، وثانيا عدم إتاحة أي فرصة لمقاتلي تنظيم الدولة/ داعش للانسحاب من المدينة في اللحظة الأخيرة، وهو الأمر الذي حصل فعلا في معركة الفلوجة، عندما عمد التنظيم إلى الانسحاب من المدينة بعد سقوط حائطه للصد في حي الشهداء، على الرغم من ان المدينة الفلوجة كانت محاصرة أصلا من كل النواحي، وعلى مدى أشهر! ثم تجنب وقوع خسائر كبيرة في القوات المهاجمة ثالثا، كما حصل في معركة الجانب الأيسر الأسهل نسبيا من الناحية العسكرية. ولكن هذه الخطة لم تلتفت إلى مسألتين هما: أن معركة مدينتي الرمادي والفلوجة كانت تجري في مدن خالية نسبيا من السكان، على عكس الساحل الأيمن من الموصل اليوم! وإلى أن المعركة تجري في مدينة قديمة، اغلب بيوتها قديمة وآيلة للسقوط أصلا! وبالتالي فان استخدام هذه الكثافة النارية الهائلة سيؤدي إلى تدمير هذه البيوت على رؤوس ساكنيها!
لقد تمكنت القوات العراقية المهاجمة حتى اليوم، من استعادة ما نسبته 15٪ من المدينة، من دون حساب مطار المدينة معسكر الغزلاني. وما زالت الاحياء الأكثر اكتظاظا بالمدنيين، والاكثر قدما، لم تصلها نيران المعركة المباشرة، وكانت السيطرة على حيي الدندان والدواسة، الذي يضم المباني الرسمية في المحافظة، ذات بعد رمزي أكثر منه استراتيجي.
انسانيا، يبدو اننا على اعتاب كارثة انسانية أخرى! فثمة اتهامات متبادلة بين الامم المتحدة والحكومة العراقية، فقد اعلنت المنظمة الاممية التي كانت الفاعل الرئيسي في عمليات الإغاثة يسار مدينة الموصل، أن المسؤولية الكاملة في عمليات الاغاثة يمين المدينة إنما تقع على السلطات العراقية! في حين اتهمت وزارة الهجرة والمهجرين منظمات الأمم المتحدة بالتقصير! وهذه الاتهامات محاولة مسبقة لإخلاء المسؤولية عن الكارثة المتوقعة. فقد أعلنت وزارة الهجرة والمهجرين انها قادرة على استيعاب 150 ألف نازح على أكبر تقدير في مخيماتها، وقد وصل عدد النازحين حتى يوم 8 آذار /مارس ما يقرب من 57 ألف نازح تبعا للأرقام الرسمية العراقية، في حين تتحدث التقديرات عن إمكانية نزوح ما بين 400 ـ 500 ألف شخص. وربما يكون الأمر مرشحا للزيادة في ظل الاستراتيجية العسكرية المعتمدة! وليس ثمة رؤية أو حلول للتعامل مع هذا العدد الذي يمكن أن يصل إلى 250 ألى 350 ألف نازح لن يجدوا ملاذا لهم بعد الفرار من نيران المعارك.
كما ان مسألة التخصيصات المالية الشحيحة أصلا تشكل عامل أزمة مضاف! فكما بينا في مقالة سابقة، لم تخصص الدولة العراقية (في تواطؤ بين الحكومة ومجلس النواب)، أي مبالغ للنازحين في الموازنة الاتحادية للسنوات 2016، 2017! وتم الاعتماد على الاستقطاعات التي اقرتها هذه الموازنات من موظفي الدولة! من خلال تقسيمه بين النازحين وبين ميليشيا الحشد الشعبي! في مقايضة لا أخلاقية (لا أموال للنازحين من دون أموال للميليشيات)، تعكس التخلي الكامل للدولة العراقية عن التزاماتها تجاه مواطنيها، ووفق هذه الاستقطاعات لن يصل نصيب النازح الواحد إلى دولار واحد يوميا!