فتحي خطاب -مصر-
لا أحد ينكر ـ ولا يحق له أن ينكر ـ أن الأمة العربية كانت على موعد مع التاريخ، قبل مئة عام، في ذلك المساء من يوم الخامس عشر من يناير / كانون الثاني 1918 حين ولد الطفل الأول لموظف «البريد» الصعيدي البسيط، عبد الناصر حسين خليل، وفي تلك الليلة العاصفة شديدة الأمطار من شتاء مدينة الإسكندرية، في موسم يطلقون عليه «أنواء الفيضة الكبيرة»، وكانت حيرة الرجل الصعيدي «البوسطجي» : ماذا يفعل أمام تقلصات الولادة لزوجته وهو غريب عن الاسكندرية، ويكاد لا يعرف أحدا في شارع القنواتي بحي باكوس، سوى مساعدة سيدة من الجيران المقربين .. وحتى أنقذته من الحيرة والقلق صرخات المولود الجديد، التي غيرت كل شئ بعد 34 عاما في مصر والوطن العربي، و انتقل التأثير والتغيير إلى دول القارة الأفريقية، وأمريكا اللاتينية، مرورا بدول من العالمين الثاني والثالث، شكلوا كتلة «عدم الانحياز» في مواجهة نفوذ القوتين الأعظم، وقتئذ، «الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية».. وتبلورت حركة عدم الانحياز في مؤتمر باندونغ في إندونيسيا 1955 برعاية ثلاث قيادات عالمية : الشاب العربي جمال عبد الناصر حسين (37 سنة).. والزعيم الهندي جواهر لال نهرو (على أبواب السبعين 67 سنة)..والزعيم اليوغسلافي، جوزيف بروز تيتو 64 سنة.
في صباح يوم السادس عشر من يناير / كانون الثاني 1918، كانت مصر على موعد مع (رجل العدالة الاجتماعية ونصير الفقراء) .. وكان العرب على موعد مع (رجل القومية العربية ).. وكانت أفريقيا على موعد مع (رجل التحرير) .. وعلى الجانب الآخر من الكرة الأرضية كانت أمريكا اللاتينية أيضا على موعد مع (رجل الثورة .. النموذج والقدوة ) .. وكانت دول العالم النامي، من عالم المستوى الثاني والثالث على موعد مع (رجل الاستقلال، المؤسس للكتلة الدولية الثالثة في العالم.. عدم الانحياز).. بالطبع لم يكن أحد يعلم الغيب حتى يدرك بأن هذا الطفل سوف يقوم بدور استثنائي عظيم يسنده إليه القدر .. وإن كان الكاتبان الفرنسيان جاك دومال وماري لوروا، قد استشهدا بواقعة انفجار المظاهرات عام 1930 ضد دستور إسماعيل صدقي ، حين وقع غلام لا يتجاوز عمره الثانية عشرة ، تحت ضربات أحد رجال الشرطة، فنهض من جديد وعاد إلى منزله والدماء تسيل من وجه ، كان إسم الغلام جمال عبد الناصر، وهو على بعد أكثر من 1000 كيلو مترا من قريته «بني مر» في صعيد مصر، وكانت الواقعة هي الإشارة الأولى كما يرى «جاك دومال وماري لوروا» لغلام يتسم بالحيوية والشهامة وبحرارة الدم المميزة لأهل الصعيد، وهو نفس الشاب الذي أصبح رئيسا لمصر ويرسل خطابا من مكتب رئيس الجمهورية، إلى أستاذه في اللغة العربية «محمد أحمد القوراني» يشكره فيه لدروسه في القومية العربية، وفي زمن لم تكن القومية المصرية تسير على خط متلاق مع القومية العربية.
وهي إشارات تاريخية، ترجمها فيما بعد أديب فرنسا الكبير، أندريه مالرو، بالقول «إن عبد الناصر كان تجسيدا لأمته في مرحلة تحول هام، وكان وسوف يبقى لسنوات لا نستطيع من الآن أن نرى مداها، تجسيدا في الحياة لمصر والأمة العربية» .. وحين تجسد موعد التاريخ في صورة شاب ـ 34 سنة ـ يقود ثورة الضباط الأحرار، ويصبح رئيسا لمصر، بدأت رياح التغيير تهب على العالم العربي، ولم يعد منطقة يمكن أن يتخذ بشأنها القرارات في خارجها، كما كان، وحتى لو حدث كان «ناصر» يحبط كل محاولة في مهدها، ويقلب الطاولة على المشاركين ومن بينهم أطراف عربية، كان هواها غربيا !!
كانت مصر على موعد مع القدر، وهي تعاني ظلما وقهرا، وسوء توزيع لثروات الوطن، وغياب للعدالة الاجتماعية، وقد بلغت نسبة الفقر والأمية 90% من أبناء الشعب المصرى، ومعدلات المرض حققت أرقامــا قياسية حتى أن 45% من المصريين كانوا مصابين بالبلهارسيا، وغيرها من مختلف الأمراض التى تنتج عن سوء التغذية، وكانت نسبة المعدمين من سكان الريف 80% من جملة السكان عام 1952 ، وغالبية الشعب المصري من الحفاة وخاصة في الأرياف والأقاليم، وكانت نسبة البطالة بين الـمصريين 46% من تعداد الشعب، فى الوقت الذى كان يعمل فيه الغالبية فى وظائف دنيا ــ سُعاة وفراشين ــ وكانت آخـر ميزانية للدولة عام 1952 تظهــر عجزًا قــدره 39 مليون جنيه، فى حين كانت مخصصات الاستثمار فى المشروعات الجديدة طبقـًـا للميزانية سواء بواسطة الدولة أو القطاع الخاص صفرًا، فقد كان الاقتصاد المصرى متخلفــا وتابعا للاحتـكارات الرأسمالية الأجنبية، يسيطر عليه بضع عشرات، أو مئات على أقصى تقدير!!
كانت تلك أبرز ملامح الصورة لمصر حين تولي الشاب جمال عبد الناصر ـ 34 سنة ـ مسؤولية إنقاذ الوطن .. وكانت الأمة العربية، ومن الساحل إلى الساحل، من شواطىء البحار وحتى حواف الرمال، في حالة أسوأ من الغياب، ثم كان موعد الأمة مع القدر، حين أعطى الشاب أمته يقينا متجددا بأنها موجودة، وأعطى لهذا اليقين المتجدد بالوجود حركته التاريخية، وأنجز بهذه الحركة مهاما كبيرة على أرضها وحول أرضها وفي العالم.
وجدت نفسي أمام السؤال العام الذي يطرح نفسه دائما : لماذا ظل عبد الناصر حاضرا دائما بعد الرحيل؟! ولماذا لم تغب صورته عن الوعي المجتمعي العربي، وعن وجدان أمته؟! ولماذا تقف ذكراه أمامنا ـ في المولد وفي الرحيل ـ في كل وقت ومكان، تتحدى الغياب، وتتحدى حقيقة الموت؟! ونفس السؤال وربما بنفس الصياغة، طرحه أمامي قبل خمس سنوات دبلوماسي غربي «إيطالي» ـ جورج ريبرتوـ وعلى هامش حفل استقبال تقيمه سفارة عربية .. قال : يبدو أن هذا الرجل يتحدى الموت بعد رحيله ؟! وقلت له معقبا : إن ما يجري في مصر وداخل منطقتنا العربية، يعيد الحياة مجددا لما كان ينادي به، ويحذر منه، وأن صورته تفرض نفسها داخل الشارع العربي، لأنها مجرد تعبير عن أفكار ومبادئ الرجل، وكثيرون في مصر يجدون في صورته معنى للنزاهة والطهر وعشق الوطن والأمة .. وأومأ الرجل رأسه موافقا، أو ربما مجاملا لوجهة نظري.
يبدو أن الزعيم العربي جمال عبد الناصر، سيبقى عصيّا على الموت والغياب،
بشخصيته المتفردة .. عاش بمقاييس الزمن، حياة قصيرة ، فقد رحل عن 52 عاما و8 أشهر و 13 يوما ، ظهر فيها على مسرح التاريخ لمدة 18 عام ، مثلت فصل إستثنائى فى التاريخ العربى كله .. «زعيم استثنائي» كنا قبله في حال .. ومعه أصبحنا في حال آخر .. وبعد رحيله انتكست أحوالنا بالأسوا والأخطر بامتياز على الاطلاق .. ولذلك بعد رحيل الزعيم العربي «ناصر»، بنحو 14 عاما، أثارت وسائل الإعلام الغربية، مسألة «دور الفرد في التاريخ» وتناولت مجلة الإيكونوميست البريطانية، في تحليل لها في العام 1984، «ظاهرة الزعيم»، وتوصل التحليل السياسي إلى نتيجة تقول: إن ( أزمة العالم العربي، هي البحث عن القائد الزعيم، والذي بقي مكانه شاغرا بعد رحيل الرئيس المصري جمال عبد الناصر) .. وهو ما عبر عنه أيضا الكاتب الأمريكي الشهير «توماس فريدمان» بأنه ( مع بداية السبعينيات من القرن الماضي، فقد العالم العربي «الربان» الذي كان يأمر، فيطاع .. ويقول، فيستمع إليه جميع القادة العرب.. ويقرر، فينفذون.. كانت لديه القدرة و«الملكة» على التأثير النافذ في الشعوب العربية قاطبة ).
وهكذا .. كان دور جمال عبد الناصر، رقما بارزا في حسابات التعريف التاريخي لدور الفرد في مرحلة تاريخية معينة..وإذا كانت الحركة التاريخية التي قادها قد أثرت في منطقة تجاوزت حدود الدوائر الثلاث : العربية والأفريقية والإسلامية، فإن دوره بالأساس كان يعتمد على الوعي الاستراتيجي بأحكام دور مصر، وبمصلحة مصر الاستراتيجية، وأن قدر مصر أن تصبح قوة إقليمية فاعلة ونافذة ومؤثرة بعروبتها، وبعمقها الاستراتيجي في أفريقيا ، وقوة عالمية بمكانتها وتأثيرها في حركة الأحداث داخل العالم الثالث، وبعمقها الاستراتيجي داخل الدائرة الإسلامية الأوسع.. ولذلك لايزال الرجل متفردا بزعامته في وجدان الأمة، وأن يتحرك خاطرا يحوم حولها كل يوم .. ومثل هذا لا يزال قائما فوق ساحتنا العربية وخارجها.
وتسترجع الذاكرة دائما، كلمات فضيلة إمام الدعاة الشيخ محمد متولي الشعراوي، في رثاء الزعيم، 1970، فقد كانت كلمات الشيخ تقترب كثيرا من حقيقة دور وتأثير وانجازات الرجل الكبير..ويقول الشعراوي : «لم يكن زعيما فحسب، وإنما كان أستاذ زعامة، ولم يكن ثائرا فحسب، وإنما كان معلم ثورة، ودارس مبادئ، وكانت عبقريته في غرس هذه المبادئ ، وما قدم للإسلام من شيوع وتثبيت وإنتشار وإعلام، وعما صنعه في الأزهر الذي تطور به، ليتطور مع الحياة ، وليجعل منه بحق منارة الدين وحملة رسالة الله ..»
كان رثاء رجل الدين، لرجل السياسة، تقديرا لما قدمه لوطنه ولأمته، في حقبة تاريخية هي من أخصب حقب التاريخ العربي الحديث، وحين كان دور مصر حاضرا وفاعلا ونافذا.
الوسومالأول نيوز عبدالناصر فتحي خطاب مئوية الرجل الكبير مصر
شاهد أيضاً
حسّان: تخصيص 45 مليون دينار لتطوير مستشفى البشير
الأول نيوز – قال رئيس الوزراء جعفر حسان، إن الحكومة ستقوم بتنفيذ عدَّة مشاريع لتوسعة …