مصر تنتخب «نفسها»..وتختار المستقبل

فتحي خطاب –
 
أتصور أنها ظاهرة، أو «حالة» تستحق الرصد والتحليل، وتستأهل أن تكون محل دراسة لما ترمي إليه .. الدوافع والأسباب وراء الاقبال التاريخى للمصريين بالخارج للإدلاء بأصواتهم فى السفارات.. طوابير الناخبين، تتحدى الثلوج ودرجات الحرارة تحت الصفر في عدد من دول أوروبا، ولا تعيقها الأمطار في جنوب أفريقيا والمغرب والجزائر، وتمتد الطوابير كيلومترات فى السعودية والكويت والإمارات، وتتحول مقار السفارات والقنصليات في 122 دولة لمهرجانات شعبية مصرية غنائية .. لماذا ؟!
إذا كانت النتيجة المتوقعة حاسمة لصالح الرئيس السيسي.. فلماذا تحدي البيئة والمناخ والطقس والمسافات الطويلة بين ولاية وأخرى تصل أحيانا في الولايات المتحدة الأمريكية واسبانيا وهولندا وغيرها إلى أكثر من 700 كيلومترا للوصول إلى القنصلية أو مقر السفارة المصرية؟ ولماذا الحضور شبه العائلي ( الأسرة بأطفالها) وكأنها رحلة في حب مصر؟
هذه الحالة المصرية «الخاصة» كانت خارج توقعات الخارجية المصرية وسفاراتها بالخارج.. وكانت دهشتهم ( أقصد السلك الدبلوماسي) أقرب لدهشة المراقبين للحدث .. رغم أن تبرير الواقعة ببساطة، أن المصريين ذهبوا للتصويت على مستقبل مصر.. انتخاب مصر الوطن أولا .. وتحدى موجات الشكوك الطافحة من الكتائب الإلكترونية الإخوانية وقنواتهم الفضائية.. تحدي ألاف الرسائل والمواد الإعلامية التي تبث ليل نهار من تركيا وقطر وعبر وسائط التواصل الاجتماعي ، فضلا عن تحركات الخلايا النائمة في الشارع المصري .. وكل هذه الموجات المتلاحقة سقطت على أبواب السفارات والقتصليات المصرية في الخارج.
وكانت رسائل الاقبال على التصويت في الانتخابات الرئاسية في الخارج، تقول إن مصر «تنتخب نفسها » من أجل مستقبل بلا إرهاب .. مستقبل التنمية على قواعد تأسيس دولة من جديد، بعد إن كانت شبه دولة، وعلى أبواب دولة رخوة فاشلة في نهاية العام 2013 .. وبعد ثلاث سنوات تقريبا من الثورة الأولى (25 يناير 2011) ثم ثورة التصحيح وإزاحة حكم الإخوان ( 30 يونيو 2013 ) .. لا سياحة، لا تصدير .. لا انتاج تقريبا .. لا أمن بصفة مطلقة .. والدولة تدير أمورها بالدين والسلف وطلب العون والمساعدة من الأشقاء، وكان بعضهم لا يملك حرية التصرف في منح الدعم لمصر دون تنسيب وموافقة أمريكية .. وقد التمسنا لهم العذر ..وهذا ما حدث كثيرا .. كانت مصر ـ لا قدر الله ـ على وشك أن تعلن إفلاسها، وربما كانت مخاطر هذه الحقيقة على الأمة ، هي التي دفعت بعض الأشقاء للمساعدة بأقل القليل.
ولو قام أي مواطن بوضع كشف حساب عن السنوات من زمن الثورة الشعبية الأولى 2011 وحتى زمن الثورة الشعبية الثانية 2013 ومابعدها من طوفان العنف الإخواني الإرهابي.. لوجد في أول الكشف عجبا، وفي آخره مأساة !!
ولم يلتفت أحد إلى حقيقة أن مصر لا تزال تدفع ضريبة سنوات من التجريف والنهب المنظم، وكانت هناك قضايا عولجت بالإهمال في زمن مبارك، وعولجت بالإرتجال في وقت مرسي، وهناك حاليا عيون وأصابع تتربص، ومعها مؤثرات بالصوت والضوء تهب على مصر، من داخل شوارعها وحواريها ، ومن خارج حدودها، وتدفع أمامها بكل وسائل التشكيك وتشويه الحقائق قبل طمسها عن عمد، حتى يفقد الشعب الثقة في نفسه قبل أن يفقدها في الوطن والقيادة .. والنتيجة ــ كما يتصورون ــ هي ما لم أستطع أن أفكر فيه ، لا قدر الله !
ثم ماذا حدث ؟! بدأت مصر تعيد حساباتها داخليا، وبضرورات فرض الأمن والاستقرار، وهو القاعدة الأولى لأية تنمية .. ثم وضعت المسؤولية أمام الشعب، الذي بادر خلال أسبوع واحد بجمع 64 مليار جنيه لشق قناة السويس الجديدة.. وتحركت عجلة الانتاج .. بطيئة ولكنها مستمرة .. لتلحق بها مشروعات البنية التحية ( شبكات طرق وكباري وأنفاق) .. ورغم أن تكلفة الإصلاح الاقتصادي كانت باهظة جدا على أعصاب و «جيوب» غالبية الشعب المصري، إلا أن شواهد مشروعات الأمن الغذائي كانت تعطيهم الأمل في المستقبل .. ولم يعد الجيش المصري العاشر عالميا والأول عربيا وفي المنطقة فقط، ولكنه أصبح قاطرة التنمية من خلال توليه إدارة وتنفيذ المشروعات القومية الكبرى .. وكانت رحمة السماء أكبر جائزة لمصر بتفجر آبار الغاز في مياه المتوسط وفي دلتا مصر لتمهد الطريق أمام مصر لتحتل صدارة الدول المصدرة للغاز.
هذه باختصار ملامح الصورة التي دفعت المصريين بالخارج للزحف إلى السفارات والقنصليات لانتخاب «مصر».. وكانت صورة مصر وحدها هي الحاضرة فيما وصفته صحف عربية وغربية بـ «عرس ديمقراطي مصري.. فقد كان الوعي ـ فيما أظن ـ أن هناك مقامرات في هذا البلد لا تجوز .. وهناك مضاربات سياسية «خارجية» تريد أن تدفع البلد إلى مجهول، حيث لا توجد هناك حوائط تمنع أو تحيل دون الاتجاه إلى الهاوية  !! وهذه الحقيقة، ليست غائبة عن  القيادة ، وأذكر ما قاله الرئيس السيسي في أول لقاء إعلامي معنا : (نحن نعلم أن هناك من سيحاول تكسير السيقان، قبل أن تنهض مصر، وكلما نهضت ، كلما زادت محاولاتهم، حتى لا تقوى على الوقوف، وهناك تجارب سابقة شهدتها مصر) .. وأشار إلى دولة كبرى لم يذكرها بالاسم ، ولكننا عرفنا أن المقصود هي الولايات المتحدة الأمريكية.
ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن مصر تقف على أبواب أخطر مرحلة في تاريخها الحديث، وهي راغبة في السفر إلى المستقبل، وهناك من يرغب تسكينها على ما هي عليه ، ولديهم بكل أسف أدواتهم في الداخل والخارج، خاصة وأن هناك ميراثا ثقيلا تراكمت طبقاته على إمتداد ما يقرب من أربعة عقود، كانت مصر خلالها مخترقة تماما، بل ومباحة أمام تحركات أجهزة استخبارية غربية وإقليمية، وحتى العربية ، و«مراكز» تقول أنها معنية بالدراسات السياسية والأبحاث ،و«دكاكين» تعددت مكاتبها لحقوق الإنسان، ووكالات تحمل شعارات التنمية والمعونة والدعم، وغيرها وغيرها .. وعلى نفس المسار يقف بعض أفراد لديهم «هواية» الاعتراض، ولأسباب يطول شرحها، ليس أقلها بالطبع أنهم يتصورون أن لديهم رؤية ثاقبة لإصلاح أحوال البلاد !!
ولا أتصور، أن أحدا ينكر، أن مصر أمامها تحديات صعبة ، وهي تواجه عناصر داخلية وخارجية، بل وحتى من بعض الدول العربية التي تكفلت بالدعم والمساندة اقتصاديا، ولكنها تضمر في داخلها ما تخشاه من عودة مصر لدورها ومكانتها، كقوة نافذة ، فاعلة، مؤثرة في الإقليم العربي، وتقوده بالرضا قبل الإذعان.. وهي الصورة التي نقلها الكاتب الكبير الراحل محمد حسنين هيكل، عن « حاكم من مشايخ الخليج» بقوله : لا نريد لمصر أن تغرق أو تعوم .. إذا غرقت أخذتنا معها .. وإذا عامت لا نستطيع أن نقف بجوارها على قدم المساواة ، أو نرفض لها طلبا !!
هناك بالفعل ـ وهي حقائق ومؤشرات قائمة ـ من يريد للوطن أن يظل يرقع الثوب ولا يستبدل الجسد .. من يريد أن تظل مصر دولة رخوة لا تستطيع أن تصلب عودها .. وإذا كان التنظيم الدولي للإخوان ، قد فشل في الإمساك بجسد الوطن ليغرق معه في دوامة العنف والدم، أو أن يلعق الجراح ويلعن الأيام .. فإن هذا التنظيم أصبح «أطلالا تلوح من بعيد كباقي الوشم في ظاهر اليد»، وعلى حد تعبير الشاعر الجاهلي القديم ، وتصدر المشهد فيما بعد جماعات وتنظيمات إرهابية من «طائفة الإسلامجية» للقيام بدور عجز عنه «الإخوان» في المنطقة العربية ، التي يجري إعدادها لحدث كبير !!
المتربصون بمصر، من الخارج وأعوانهم في الداخل، يلعبون بموجة ارتفاع الأسعار، وعلى وتر معاناة الحياة المعيشية، وهي حالة لا ننكرها، أو نتهرب منها، ولكن نتعامل معها بمقدار ما يؤكده الفيلسوف والأديب الفرنسي الشهير «فولتير» ، بأن الرقي حينما يطرق أبواب أمة يسأل أولا : هل لديهم نقد ؟ فإذا ما أجابوه بنعم ، دخل والتقى برموز هذه الأمة .. وإذا ما أجابوه بـ «لا» هرب ولا يدخل هذا المجتمع .. فالنقد له ( 3 ) أركان هي : ذكر الايجابيات ، ثم السلبيات، ثم طرق العلاج .. وإنكار ذلك مدمر للذات أولا قبل الوطن .. وهي صورة حذر منها زعيم الهند العظيم «نهرو» متسائلا: من يعيش إذا ماتت الهند ؟!
 
 
 

عن الأول نيوز

شاهد أيضاً

20 شهيدا وعدد من الجرحى في قصف الاحتلال مناطق عدة في قطاع غزة

الأول نيوز – أفادت مصادر طبية، باستشهاد 20 فلسطينيا على الأقل وإصابة آخرين من جراء …