ماهر سلامة-
تدعوني مدرسة عمان الوطنية كل عام لحضور مسرحية العام التي يقيمها الطلاب بالتعاون مع الفريق الفني المميز لها.
وفي كل مرة أكتب عن مسرحياتها السنوية التي تقدم تفردا نصيا وإخراجيا قلما نجده في بعض مسرحيات الكبار، أغادر المسرح وتبقى المسرحية تدور عقلي وكأنني اشاهدها مرة أخرى وأتاملها لوحدي، فتتجدد معاني كادت تصدأ، ويعود الحماس والإحساس المتوازن من جديد.
هذا يحصل معي عندما اتابع برامج المسابقات الغنائية ذي فويس أو أراب ايدل، فيعود الشجن وتعود معاني وأحاسيس من الطرب القديم كادت تتصحر.
فكرت كثيرا في سبب هذه الإثارة العميقة، فلم أجد إلا تفسيرا واحدا يقول أن المبدع الصغير أكثر صدقاً، وأكثر إيماناً في كثير من الاْحيان من الكبار الذين أصابتهم ظروف الحياة بخذلانات كثيرة، حيث تشوهت المعاني الفطرية في الروح. وفي هذه الحالة يبدوا الابداع أقل مصداقية وأقل إيمانا، فتطغى الشكليات الاستعراضية على المحتوى.
في كل مرة أسمع أغنية موطني من الصغار عمراً، لا أعرف ما يحدث، تدمع عيناي وعينا من بجانبي، وما الدمع إلا أحاسيس وعواطف مبللة.
في المسرحية الاْخيرة لمدرسة عمان الوطنية “القيثارة الهادرة” والتي تناولت بكل بساطة تاريخ القضية الفلسطينية من خلال استحضار الشاعر الفلسطيني الكبير ابراهيم طوقان، تجلس بلا توقعات، ترى مسرحا مزينا بديكور عفوي أصيل، وإضاءة تتعامل مع الواقع لتسليط الضوء على مفاصل المسرحية. يدخل فريق التمثيل وتبدأ سردية الحكاية، حكاية تأخذ أرواح الصغار الذين يملأهم الصدق والإيمان نحو الاندماج الكامل في النص، وكأنهم يقفون على مسرح الحياة بمواجهة كل التحديات بعفوية وسلاسة لاْنهم نسوا تماما انهم يمثلون، بل هم باتوا مقتنعين أن هذه هي حياتهم، حيث يندمج الخيال مع الواقع، فلا يعود هناك فصل، فالمشاعر حقيقية، والصراخ متألم، والحوارية دائرة وكأنها في رام الله أو في القدس أو في نابلس. فهم يدمعون على كلمات تجرحهم، وتحمر وجوههم على تعابير حركت كرامتهم، ويرتجلون بعض التعابير التي مست أحاسيسهم وعواطفهم. كلمات تخفي وتنطق مبادئ وقيم مِثل الحق، والعدل، والمساواة، وقيمة الاْرض، والتاريخ، كلمات لها وقع السحر على نفوسهم، فهي ما زالت كلمات لم تستهلك بعد، يؤدونها بإيمان يصل إلينا كمشاهدين كالصاعقة.
ما شدني هو مستوى من مَثَل! فهم في الحقيقة بلا خبرة مسرحية، إلا أن ما جعل الاْداء التمثيلي صادق هو احساسهم وإيمانهم بما يفعلون.
لا بد وأن هناك تجارب كثيرة مبدعة في مدارسنا، تعيد صياغة وإنتاج هذه القيم الكبيرة عن طريق الصغار، والمهم هنا تأثيرها على الكبار يكون في هذه الحالة يكون أكثر عمقا وألما. طلابنا وأطفالنا هم مستقبل سيواجه غدا ما يمثلونه اليوم على خشبات المسرح، وهنا يأتي دور التأهيل اللامنهجي الابداعي. فمعركتهم مع عدو ظالم وسارق، معركتهم مع أعداء يناصرون الظلم، ولابد من تركهم من إبداع طريق جديد معاصر لمواجهة هذا الظلم محليا وعالميا.
هذا هو الجانب التربوي المسؤول عن إحداث الوعي الإنساني المبكر للذات، هذه طريق بناء الشخصية القادرة على التعامل مع العلم بوعي جديد. فالفيزياء والكيمياء والرياضيات لا يمكن أن تبني شخصية ولا علم تطبيقي مبدع لوحدها. الفنون والثقافة فقط هي القادرة على صياغة الوعي نحو نموذج قيادي مبكر للطلاب قيادات المستقبل بحرفييه ومهندسيه وأطبائه وسياسييه ونقابييه. في الجانب التربوي يتجلى كل علم الاجتماع بدون استخدام عنوانه الذي بات بلا محتوى، في الجانب التربوي تتجلى خطوات بناء فلسفة يومية وأخلاقية للحياة، وبناء الخطوات الحساسة لبناء صحة نفسية مبكرة للطلاب، تعلمهم الثقة بالنفس لعمل كل ما هو صالح، يعلمهم انه لا يصح إلا الصحيح.
عندما تنتقي مدرسة لاْبنائك، ابحث عن من يساعدك في بناء شخصيتهم، لا لإضعافها. شكرا لكل معلم حياة ولكل معلمة حياة معاصرة، شكرا لكل قيادات المدارس المبدعة الحكومية والخاصة لما يقومون به من جهود.
شكرا لعمان الوطنية وطاقمها على الدعوة، شكرا لدارة الطاهر على حكمتها في لمساتها الكثيرة في مسيرة التنمية التربوية بلا كلل ولا ملل رغم كل المعوقات.