الدكتور ذوقان عبيدات-
ليس سراً أن التعليم لم يتقدم منذ قرون. وليس سراً أن جميع الأنشطة الإنسانية تقدمت بشكل يفوق كثيراً ما حدث في التعليم.
فالطب والهندسة والزراعة وحتى خدمات الغسيل وكي الملابس، تقدمت كثيرا. واُخترعت أدوات جديدة لا علاقة لها بتاريخ هذه المهن. بينما التعليم ما زال يتحدث بنفس المفاهيم والأدوات والسبورة، الكتاب، الشرح، دور العلم، الامتحان….الخ. بل تراجع كثيراً عن أيام سقراط حيث التعليم حواراً ومشياً وحركة. وصار مقاعد دراسية.
(1)
المقاعد الدراسية والرئاسية
في المقاعد الرئاسية يتمسك المسؤول بالجلوس عليها، وعدم تغيرها، وعدم استبدالها , فهي مقاعد مرغوبة بل ويقاتل أصحابها من أجلها حتى الموت!! والحركة ممنوعة ومحرّمة.
أما المقاعد الدراسية، على خلاف ذلك. مقاعد مكروهة، لا يتمسك بها طالب، بل يجبر كل طالب على الثبات عليها، وتمنع حركته!!
ولكن بالنتيجة، يبقى الحاكم على مقعده فخوراً، متمسكاً، لا يتحرك، ويبقى الطالب على مقعده مقهوراً، متحفزاً، متوتراً، لا يتحرك!!
فالمقاعد نوعان: مقاعد دراسية تجلس عليها مرغما. ومقاعد رئاسية لا تغادرها الاّ مرغما!! فلماذا هذا الفرق؟ لن أتحدث طبعاً عن مساوئ الثبات على مقاعد الرئاسة، حيث يقتصر حديثي على الثبات على مقاعد الدراسة!!
(2)
مشكلة المقاعد الدراسية: الجلوس!!
سيطرت مفاهيم المقعد الدراسي، والمقعد الجامعي على التعليم، بحيث صارت الاحصاءات والمعلومات والمفاخرات بعدد المقاعد الدراسية والمقاعد الجامعية. فصرنا نقول: خمسون مقعداً للطب وخمسون مقعداً للهندسة….الخ، بدلاً من القول: خمسون طالباً أو خمسون طبيباً فلماذا نختزل ديناميكية التعليم وهي النشاط والحركة باستاتيكية جامدة هي الجلوس والمقعد؟
تقول البحوث الحديثة للدماغ أن الحركة عنصر من مقومات نمو الدماغ. وأن الجلوس فترة طويلة تقلل فاعلية الدماغ، فيرتكب حماقات غريبة. ولعل ذلك يفسر كثرة مشاكل ضبط الصف في الحصص المتأخرة! فالطالب يجلس طويلاً فتقل فاعلية دماغه ويرتكب مخالفات لا يمكن ارتكابها في الصباح
كما أن هناك ذكاء حركياً من ضمن الذكاءات المتنوعة، وأن تنمية هذا الذكاء من مهمات المدرسة. فالطلاب في غالبيتهم يحبون الحركة. والحركة ضرورية للدماغ. فلماذا نجبرهم على الجلوس في المقاعد؟؟
(3)
مقاعد أم مشاغل؟
إننا بحاجة إلى استبدال المشاغل بالمقاعد. لأننا نريد الحركة، ولا نريد الثبات. فبدلاً من أن نقول: مقاعد دراسية وصفوفاً. نقول مشاغل دراسية وورشات!!
إن هذا بالطبع، ليس تغيراً شكلياً، بل تغير عميق يعني:
- الطالب يتعلم من خلال ما يقوم به من نشاط، لا من خلال ما يقوم به المعلم من نشاط. فالمطلوب طالب نشط، بدلاً من معلم نشط
- طالب يتعلم من مصادر متعددة وليس المعلم وحده. فهو بحاجة إلى مكتبات ومختبرات وزيارات وغيرها.
- طالب يدمج كامل دماغه ونشاطه في التعلم. فالمعلم يشغل حاستين هما : البصر والسمع، والكتاب يشغل حاسة واحدة: البصر، والصورة تشغل حاستين: البصر وربما السمع، والنموذج يشغل حاسة اللمس والبصر، والعينات تشغل حواس: اللمس والشم والبصر، وهذه الأدوات كلها لا تحفز الدماغ الاّ على تعلم قد ينسى بعد فترة.
أما التعليم الحقيقي، الذي لا ينسى، فهو تعلم يشغل جميع الحواس، وهي بحسب بحوث الدماغ تسع عشرة حاسة ولتشغيل هذه الحواس نجتاج بيئة حية وغنية.
فما المقصود بالتعلّم الحقيقي؟
- إنه تعلم ينقل العالم الحقيقي إلى حيث الطالب – في المشغل- لا في المقعد.
- إنه تعلم ينقل الطالب إلى حيث العالم الحقيقي ليرى الجبل جبلاً، يشم رائحته، ويمشي على تضاريسه، ويلمس عناصره، ويتحد معه، ويحس به، ويقيم علاقات مع ارتفاعاته، ويدرك وظائفه….. الخ
فالتعلم تفاعل واتحاد، وليس مقعداً وسكوناً!
هذا التعلم هو ما يسمى: تعلماً لا ينسى!! قد يقول أحدنا و هل هذا ممكن؟ الجواب نعم! ممكن جداً إذا ألغينا مفهوم المقاعد الدراسية.. وما لا يمكن تحقيقه كله، علينا أن بعضه. ولنلاحظ جميعا أن حياة الأجيال السابقة من الأطفال كانت تعج بالحركة في الشارع والحقل والملعب والساحة يمارس فيها حركة كانت ضرورة لنمو دماغه . فسريره يهتز وحياته مشيا وألعابه حركة, بينما أطفالنا ممنوعون من الحركة خارج المدرسة لأسباب أمنية وداخلها لأسباب مدرسية!!
نريد دارس بمشاغل لا بفصول وبحركة دون جلوس إجباري.