ياس خضير البياتي –
الأول نيوز –
الخرافة هي العلم الأقدم، بدأت تتطور من شكل إلى آخر أكثر فعالية وتأثيراً، إنها تأتي خلسة، على شكل علوم مزيفة خادعة أو أدعية شافعة. وهي غريزة حشرية تنتحي إلى الشوق، وتعشق الثغرات، وتقيم في الفجوات، يسود الدجل ويركز لواءه في المناطق التي مازال العلم فيها مُبلساً حائراً لا يملك جواباً حاسماً، حيث تسيطر الخرافة على عقول المجتمعات، فلم تكتف بالتغلغل في المجتمعات الفقيرة غير المتعلمة، بل امتدت إلى أوساط تبدو راقية أو تحمل قدرا من العلم والثقافة والمدنية، ولديها قنوات عديدة للعبور من خلال التعليم والإعلام والموروثات الشعبية بعلم زائف، وخرافات جديدة يفتح رونقها البراق المجال لتصديقها والعمل بها.
والتفكير الخرافي هو عالم الخداع؛ فبالخرافة يخدع الإنسان نفسه ويحسب أنه يتمتع بفرط المعرفة.
هكذا فسر العلماء والكتب الخرافة، ومازالت البشرية تصنع الخرافات، وكأنها مصابة بداء الحنين لها، وهذا ما جعل الباحث د. عادل مصطفى يكشف لنا من خلال كتابه العلمي سر (الحنين للخرافة) وأسرار العلم الزائف، والفرق بينه وبين العلم، أي المعرفة السليمة كما يسميها.
كما يقدم أسئلة مهمة للقارئ من قبيل: كيف نكشف الدجل؟ وكيف يباع العلم الزائف؟ أي انه يحاول إزالة الشوائب التي تسبح حولنا، وهدم الثوابت والأصنام الفكرية، لبناء إنسان واعٍ نقدي لا يقبل ولا يصدق بكل شيء بسهولة حتى لو كان مدعماً بالشواهد.
وفصول الكتاب متنوعة من حيث الموضوعات، لكن الموضوع المشترك هو في (العلم الزائف)، حيث تتفرع القضايا التي يتناولها، بالإضافة إلى الوسائل التي نفرق بها بينهما، من خلال أبرز علماء النفس، فيوضح لنا عالم النفس (باري بريشتاين) أن العلم الزائف يمتاز بقابليته لعدم التكذيب، أي لديه ردود احتيالية على كل نقد موجه إليه، بينما يعلمنا (توماس جيلوفيتش) كيفية اكتشاف الدجل، فالدجالون كثر، في الدين، الطب، السياسة، البيع والشراء.. إلخ، وهؤلاء دائمًا ما يستخدمون العلم الزائف كدعامة لهم، حيث يوظفون بعض كلماته الاحتيالية في مشاريعهم، مثل (أكد عليه العلماء، حسب دراسات علمية، كان العالم الفلاني كذا وكذا).
وهكذا فالخرافة تشيع التوازن بين الإنسان وبيئته، وتنظم زمانه ومكانه، وتمد له في الوجود مدّاً، على تفاوت في الناس؛ ففي الوقت الذي يكون فيه تحكم الخرافة هامشيا في حياة الناس في المجتمعات المتقدمة، فإنها تشكل مفتاح الحل في مجتمعاتنا المتخلفة، بل هي العصا السحرية لكل صغيرة وكبيرة، بل يمكن القول إن الإنسان الذي يؤمن بالخرافة هو إنسان توقف زمانه لقرون خلت، ومراوح بذات المكان رغم أن ظروفه صارت المتخلفة.
فما زال هناك قطاع واسع من الناس يؤمنون بالأشباح والأرواح الشريرة، وتحضير الأرواح، والعلاج بالأدعية والتعويذة والطلاسم. لكن الغريب أن الخرافة تطورت ودخلت في العلوم والسياسة والطب والتكنولوجيا الرقمية وعالم الأعمال، وأصبحت كأنها قدر للتعامل معها، وأسلوب عصري للتفاعل، وهذا ما جعل روبرت بارك أستاذ الفيزياء في جامعة مريلاند الأمريكية في كتابه الخطير الخرافة، وعنوانه الفرعي (الاعتقاد في عصر العلم)، يعتقد أن 90 بالمئة من البشر اليوم في عصر العلم يؤمنون بالخرافات، وأعطى أمثلة شيقة في مجال الطب والأدوية والدين.
وهو يرى أن الخرافة لها جذورها التاريخية المتأصلة في ثقافة كل شعب، وهي ليست متشابهة من حيث الموضوع وقوة التأثير، لأن الزمن أعادها بطريقة مبتكرة، وكل ثقافة لها خصوصيتها وبيئتها في تفسير الخرافة.. فطائر البوم هو نذير شؤم وخراب عند العرب، بينما يعامل الأوربي البوم كرمز للحكمة والمعرفة، ويعرف بـ (طائر الحكمة)، وكانت آلهة الحكمة الإغريقية (أثينا) تحمله دائماً على كتفها.
صحيح أن هناك إيماناً بالخرافات لدى الشعوب، لكن الحقيقة أن مجتمعاتنا العربية والإسلامية يرتفع فيها منسوب الإيمان بالخرافة لأعلى درجاته، فقد أصبحت من قبيل البديهيات المسلم بها؛ ذلك أن معلمينا وآباءنا وأمهاتنا، جعلوها مأثورات وأكدوا لنا صحتها، حتى أصبح حدسنا وتجاربنا الحياتية يقران ما تنطوي عليه من (حكمة)، ومازالت مجتمعاتنا في سجالات عقيمة حول جنس الملائكة، وهل يجوز مصافحة المرأة، وهل الخروف الذي أكل صحيفة مكتوبة بلغة الكفار لحمه حلال أم حرام، وحرمانيه أكل البيض المتساوي أطرافه ،وتحريم المرأة قراءة سورة يوسف ، وتحذير المرأة الشرب من فنجان أو كوب مكسور لأن الزوج سيتزوج عليها ، وغير ذلك من الأمور المضحكة المبكية!
ما يثير حقا، هذا التضاد القوي بين مجتمعات صاعدة، يتناسل فيها العلماء تناسلاً بالمتواليات، فلم تجد في الأرض ما يشغلها إلا الذهاب إلى القمر والمريخ لاكتشاف أسرار الكون، وبين مجتمعات مندهشة وخائبة، يتناسل فيها الجهلة والدجالون، فتعود إلى الوراء لتنــــبش الأموات لتــــخليدهم في عالم الذكــاء الاصطناعي، والذهاب إلى الخرافة لتنشيط حياتهم لتدمير الذات.
فالعراق الذي كان منذ الأربعينات بلد التمدن والحياة النيابية والصحف والثقافة والانفتاح الاجتماعي، يصبح اليوم في القرن الواحد والعشرين هو موطن الخرافة والشعوذة وثقافة الموت وومارسة طقوس الدم والموت، حيث أصبحت الخرافة تجارة رائجة للأحزاب الدينية في العراق تستثمرها لتسويق أفكارهم المتخلفة لاحتلال العقول، وبناء منظوماتها السياسية لكسب الجماهير البسيطة، وبث دجلها الزائف بينهم، عبر الاختفاء وراء آية قرانيه، ورموز دينية، وطقوس مستوردة، وقصص ملفقة من التاريخ.
لقد أدخلوا الخرافة والترهات في السياسة والدين والتعليم، وآخرها في الطب بمواجهة فيروس كورنا، فهذا يطالب بدخول (مادة الحرمل) داخل المستشفيات، وآخر يطالب بضرورة رايات تحمل صور أئمة فوق مستشفيات كي لا يصاب الناس بالمرض، وآخر يقترح التجمع بالمراقد والمزارات الدينية لأنها ستكون حامية لهم لأنهم من (أصحاب الإيمان)، وهناك من يجعل بصقة رجل عمامة شفاء للفيروس، ومنهم من يجعل قبر أحد الأئمة (مكان مجرب ودواء مجرب، وهو طبيب بغداد).
والقصة لا تنتهي، والخرافة لها بيئتها العراقية الخصبة، والحكمة المأثورة التي تقول: (إذا ضعف العقل استسلم للخرافة)، والعقل العراقي الظالم والمظلوم يعاني أصلاً من تراكمات الزمن وأحزانه، وهموم الحياة ومتوالياتها المزعجة في وطن لا تجد فيه ما يسر سوى الأزمات والنكبات، ويبدو أن 100 مليار من الأعصاب الموجودة في دماغ الإنسان لم يبق منها عصب واحد في دماغ العراقي لكي يجعله يحيا كالأسد، حتى ولو كان زئيره لا يبعث على الرهبة.
كان على حق أحد العراقيين الذي صرخ في وسائل التواصل الاجتمــاعي بلهجته العراقـــية الشـــعبية: (هذولة الرعيان من السياسيين خلوا بينه مخ صالح للعيش والحب حتى نفكر مثل باقي البشر) ؟!
ويرد عليه عراقي آخر بسخرية أكثر لاذعة (ياريت المخ فقط … لقد توقفت الأعضاء كلها ياعزيزي ههههههه)، ويرد عليهم ثالث لينهي الجدل …الله غالب يااخوان ؟! (الزمان)