الدكتور سهيل الصويص –
الأول نيوز – لم يكونوا في رحلة نقاهة واستجمام وكانوا يعرفون ، طريقهم كانت معبدة بالأشواك وكانوا يعلمون ، حرموهم من رؤية أطفالهم وأهاليهم أسابيع طوال ولم يمانعون، كانت مكافأتهم حرمانهم من علاواتهم وحرمان البعض من معاشاتهم لكنهم بقوا على العهد ماضون .
ثابروا حتى اَخر رمق محاولين إعادة البسمـة لشفاه من يعيشون منذ أيام تحت وطأة الخوف من المجهول فالفيروس اللعين قد استوطن رئتي اَبائهم وإخوتهم فبات الأمل ينبض في عروقهم مع كل نفخـة لجهاز التنفس بانتظار من يزف لهم الخبر السار لكن ها هو القدر يختار الطبيب ليسبق مرضاه إلى رحمة الخالق .
ها هي طوابير المراييل البيض تودعنا دون رحمة لكننا نتساءل إن كنا قد قدمنا لهم حقاً كل ما يحتاجوه ليبقوا بجوار أجهزة الإنعاش لا ترقد لهم عين لإنقاذ مرضى يصارعون بين الحياة والموت.
هل منحناهم كل ما يملكه العلم من قدرات حتى نصحوا وإذ بهم قد فارقونا قبل أن يغتبطوا برؤية مرضاهم متعافين ؟
من رحلوا عنا بالأمس ومن ينتظرون دورهم في أقسام الإنعاش من ممرضين وأطباء ليسوا من البارعين المتفننين في موهبة استعراض ربطات العنق وتوزيع الابتسامات أمام عدسات التلفزيون فكل ما يملكوه من سلاح هو العطاء ثم العطاء حتى لو كان الثمن باهظاً في نهاية المطاف .
ماذا تجدي كلمات العزاء لأهل فقدوا أعز ما يملكون ومهنة خسرت حزمة من أبرع أصحاب الخبرات ؟ وتحت وطأة الحزن والخوف من الاَتي نتساءل إن كان بإمكاننا تفادي فقدان بعضهم لو تعاملنا مع المرض والمرضى بصورة مختلفة ؟
هنالك شيء لا يستوعبه لا العلم ولا العقل فعندما يصرح مدير أكبر مستشفى لعلاج الكورونا بأن نسبة وفيات الإنعاش في مستشفاه 90% وأن هذه النسبة طبيعية لا بد أن تتراكم طوابير الضحايا . هل تتخيلون بربكم مريض واحد من عشرة يدخلون الإنعاش قد يخرج غير مكفناً فهل هذا ما يجري في دول العالم يا سادة العلم ؟
هنالك إذن خلل كارثي محتمل في منظومة العناية وإلاّ كيف يمكننا استيعاب عشرات الوفيات يومياً في الأسابيع الأخيرة .
لا نريد مقارنة أنفسنا بمستشفيات أوروبا ، حيث نسبة الوفيات لمرضى الإنعاش منذ نهاية حزيران تعادل 40% ، لكن لنأخذ الكويت التي سجلت ضعف أعداد الإصابات المدونة لدينا فمتوسط تعداد المرضى اليومي في الإنعاش في الأيام السبعة الأخيرة منذ 24 أكتوبر كان ما بين 104-123 مريضاً بينما تعداد الوفيات اليومي كان ما بين حالتين وسبعة حالات بمجموع 33 وفاة فقط خلال أسبوع فما الذي يجري وقد غدا خبر57 وفاة في اليوم أمر طبيعي في بلدنا ؟
هل مستشفياتنا مجهزة فعلاً بكل متطلبات الرعاية والإنعاش الحديثة الفعالة ؟ الجواب هو بالتأكيد لا والوزارة تعرف أين يقع الخلل فأصوات كثيرة حذرتها منه لكن لا حياة لمن تنادي ، مستشفيات الحكومة تفتقر كلياً وقطعياً لأخصائيين مخضرمين في الإنعاش التنفسي وبدونهم ستتفاقم الأعداد وتتواصل مسيرة فقداننا للمرضى .
والخلل لا يكمن أيضاً في هؤلاء الأخصائيين الذين مهما كانت خبرتهم فلن يتمكنوا من تحسين نسبة الوفيات بدون وجود طاقم تمريضي مدرب وكاف وكفوء فهل كل هذه المعطيات متواجدة في مستشفياتنا وخصوصاً الحكومية منها وهل من بين من غادرونا كان بالإمكان تقديم خياراً أفضل لهم ؟
الجواب على هذا التساؤل أيضاً بلا ويأتي من مساعد أمين عام وزارة الصحة الذي صرح قبل يومين بأن” الحكومة لم تكن مواكبة للحدث كما يجب حيث في البداية كان هناك وقت طويل للإعداد ” !!! أليس هذا اتهام واضح ومن صلب وزارة الصحة بالتقصير والإهمال لمن كانوا مسؤولين عن ملف الكورونا ؟
ما الذي فعلوه إذن منذ ثمانية شهور من استعدادات وخطط لمجابهة عدو فاجأنا بزيارته البغيتة ؟ ثمانية شهور ولم نجهز أنفسنا للخريف الذي أرعبونا منه من مكاتبهم الفارهة لكن يظهر أن ربيعنا قد امتد طويلاً ومخططينا لم يستيقظوا بعد .
الوقت ليس للمجاملات وللكلام الدبلوماسي فالأرواح تتطاير دون رحمة فكم من قسم عناية جديد وكم من أسرة إنعاش وأجهزة تنفس وفروا لنا على أرض الواقع خارج نطاق التصريحات المزخرفة ؟ أين المستشفيات الميدانية الحيوية في مثل حالات الكوارث هذه فهل يعقل أن يطرح هذا المصطلح لأول مرة على ألسنة مسؤوليي الوزارة في 4 أكتوبر فقط أي غداة الانتهاء الدستوري لصلاحية الحكومة أم أنهم ينتظرون أن تأتي النجدة من الجيش الذي لم يتوان يوماً عن خدمة الوطن وتدارك تقصير وتقاعس الاَخرين ؟
منذ 8 اَب حتى اليوم سجل الأردن 71375 إصابة جديدة و 818 وفاة ( كان لدينا فقط 11 وفاة خلال خمسة شهور ) ، فالكارثة الحقيقية بدأت منذ هذه اللحظات عندما هاجمنا الفيروس من حدود جابر وانتشر في كافة المحافظات بفضل الإهمال في الرقابة الصحية على الحدود التي مرّ عبرها في 24 تموز ناقلة تحمل 43 مواطناً مصابون بالكورونا لكن ذلك لم يثير حفيظتهم في ظل الاسترخاء الرقابي المعشش الذي عرفناه سابقاً على حدود العمري وكلفنا غالياً ، وها نحن منذ ذلك اليوم اللعين ندفع الثمن . فماذا فعلوا لتدارك الأمور خلال شهرين طوال من تحضيرات وإجراءات غير الاكتفاء بتعداد الضحايا كل يوم وبطلاقة لغوية منقطعة النظير ؟
في 12 اَب صرح الناطق الرسمي باسم لجنة الأوبئة الذي هو اليوم وزير صحتنا بأن التهاون والتجاوزات على حدود جابر أدت لانتشار العدوى فماذا ننتظر لنحقق بخفايا Jaber Gate هذه ؟ أفلا تستحق مئات الأرواح التي فقدناها تحقيق محايد والذي بالتأكيد لن يعيد للأبرياء الحياة لكن من حق ذويهم وحق الوطن أن نعرف الحقائق ؟
هل نوفر للأطباء والممرضين في أقسام العلاج والعناية الحثيثة كافة وسائل العلاج والإنقاذ والحماية من عدوى الفيروس ؟ هل يعمل طاقم العلاج التمريضي والطبي ضمن القواعد الإنسانية من حيث ساعات العمل وكثافته وصعوبة الحالات ؟
هل أقسام العزل والعناية والإنعاش في بعض مستشفياتنا الخاصة اَمنة وصحية ومضمونة أم أن تقاضي 1650 دينار في الليلة الواحدة في قسم الإنعاش كان لوحده كفيل بتحويلها لمستشفيات مثالية في علاج الكورونا ؟ وهل ستكون مجرد صدفة إن تكاثرت حالات الوفيات في بعضها ؟
إيطاليا التي كانت أول وأكثر دولة أوروبية متضررة من الفيروس دولة متقدمة علينا في كافة المجالات لكن تدهور وضعها الصحي وسقوط اَلاف الضحايا دفعها في نيسان وبتواضع لطلب العون من الأطباء الكوبيين الذي يملكون الخبرة والمهارة في التعاطي مع الجائحات الوبائية وها هي إيطاليا منذ قصل الصيف دولة خضراء فهل عيب علينا إن تعاطينا بنفس الطريقة أم أن كبرياء البعض أغلى من صحة المواطن ومصلحة الوطن فالمهم الاَن وفي هذا الوقت العصيب محاولة إنقاذ ما تبقى من منظومتنا الصحية وتفادي تضاعف أعداد الوفيات والإصابات قدر الإمكان .
رحيل هيثم ومحمد وعباس وسميح ، وبقية شهداء المهنة الذين نترحم عليهم ، يمثل الشعلة التي يتوجب على جيل كامل من الأطباء مواصلة حملها لنقدم للمرضى أضمن فرص النجاة من هذا الداء الخبيث اللعين فهم إن رحلوا لأن النظام الصحي الحالي تنتابه أسئلة محيرة تجعلنا نتخوف على من سيكون المصاب الجديد فيبقى لدينا الأمل في أن تتطور الأمور لما فيه الخير لكي يغادر نصف المرضى على الأقل من الإنعاش والابتسامة تعلو شفاهم وشفاه الأطباء الذين سهروا عليهم لا أن نصحو وإذ بشراشف بيضاء تغطي أجساد الطرفين .