د. محمد سليم شوشة –
الأول نيوز – تمثل المجموعة الشعرية الأحدث للشاعر العربي موسى حوامدة “تجبر خاطر الغريب.. وردة” الصادرة عن مؤسسة أروقة بالقاهرة 2020 حالة شعرية خاصة ونصوصها تمثيل جمالي متميز ومغاير وحافل بالجمال الشعري والإنساني، نصوصها تجسد حالات شعرية شبه متقاربة في إطارها الكلي والإجمالي ولكنها تأخذ عديد التنويعات الفرعية والتمثيلات الحدثية واللغوية والبلاغية المتغيرة من نص إلى آخر.
في مجمل هذه المجموعة نحن أمام تلك الحال الشعرية الكلية التي تجسد إنسانا مغتربا أو واقعا تحت حد أسنان حادة للحيرة والاغتراب والتعجب والمرارة والسخرية والحزن من أحوال عديدة متوارية مرتبطة بالسياسة أو الابتعاد عن الوطن والأرض والجذور أو استشعار الضعف لدي الأمة أو غيرها، وكلها حالات لم يكن الفرار منها إلا إلى واحة الجسد ولذة المتعة المتفجرة عنه. اللجوء إلى المرأة بكامل جمالها وأوصافها ومفرداتها ولذة الكلام والفعل والحركة والامتزاج والاندماج والانسلال منها وتلك الحركة الصاخبة معها وحولها وفيها وبها مما لا ينتهي بل يتجدد بتجدد الوقت وبتجدد الطاقات الشعرية الساكنة في عقل الشاعر ووجدانه ومخيلته وموهبته وبقدر ما في نفسه من القدرة على تمديد عالم المرأة واللذة الجسدية وجعله كونا موازيا ومستقلا وكأنه كوكب جديد لجأ إليه الشاعر هربا أو كأنه وطن جديد يستحق أن يبذل الشاعر نفسه في سبيله أو في سبيل الدوران بفلكه كأن المرأة صارت النجم الأكبر والشمس التي يحتمي بها كوكب الشاعر وعن حركتهما تتوالد الطاقات أشعة من النور واللذة والارتقاء الدائم في مدارجها.
في هذه المجموعة الشعرية كذلك وبصفة عامة عدد كبير من الحيل اللغوية والبلاغية وجماليات التلاعب بالألفاظ ومصادر الدهشة والمتعة النابعة عن لعبة موسعة هي لعبة المطابقة بين الحرب والعلاقة الجسدية، وهي لعبة شعرية قديمة راسخة في الشعر العربي منذ العصر العباسي ويجيد فيها شعراء قادرون على امتلاك المخيلة واستخدام اللغة الرمزية التي تؤشر إلى الحرب والعلاقة بين الرجل والمرأة في الوقت نفسه، ومن ثم هي لعبة مركبة وتحتاج إلى حساسية خاصة باللغة وحافلة بالجماليات لكونها تراوغ في انكشافها وتواريها وتحترس من الانزلاق إلى الانكشاف الفاضح والسقوط في بركة المباشرة الضحلة، وتنجح في هذا الهدف مع الشعراء ذوي القدرات التخيلية والرمزية الكبرى والمالكين لقدرات لغوية كبيرة وسيطرة كاملة على أشكال التعبير وصياغة الجملة الشعرية سواء عبر الطبع أو الصنعة أو بهما معا. الحقيقة أن المطابقة لغويا وتصويرا ورمزا لا تقع بين العلاقة الجنسية والحرب فقط، بل هي مطابقة عامة للوجود بكامله بأسفاره وارتحالاته ونشأته وتكونه وكافة الأشكال من الحركة الكونية تحدث في هذه العلاقة وفق إحساس الذات الشاعرة ورؤيتها، فهكذا تشعر الذات بحدود هذه العلاقة التي تبدو لا محدودة، وهي حالات من الكر والفر والاحتلال والمكسب والخسارة والميلاد والموت والإخلاص والخيانة، وجسد المرأة كون وكوكب كامل بطرقه وأركانه ودوله وبحاره وقاراته واتجاهاته.
لم أحذِّرْ أسلحتي الباقية من خطر التولي يوم الزحف
كانت تسبقني للميدان
ترفع أسلحتي الحمراء والبيضاء
نجد أن عددا من الجماليات والمتعة تنتج عن استخدام لغة الحرب أو المطابقة للغة العلاقة الجسدية بلغة الحركة في الكون أو حركة التاريخ، وأهم هذه النواتج أن النصوص برغم مقاربتها لهذه العلاقة المحدودة مكانيا بل المحصورة في نطاق شديد الضيق تبدو مغامرة وجودية وتاريخية، يبدو الرجل والمرأة في هذه العلاقة طرفي علاقة جدلية مثل علاقة الفارس بالحرب أو علاقة الفاتح الغازي بمدنه أو البحار بالبحر، وهذه العلاقة الجدلية تصبح مصيرية لأن منها التحقق والميلاد والوجود المغاير أو الهرب والفرار إلى حياة أخرى يتم اختيارها عن قصد. العلاقة الجسدية وفق هذا النسق من الحرب أو الوجود المغايرة والمطابقة مع الكون تستمد قدرا كبيرا من توترها وحركيتها. فالحرب أو الإبحار أو الغزو أو الانصهار أو ميلاد قارة جديدة تنفصل وتتنفس كلها أمور مصيرية وحافلة بالتوتر والقلق والبحث عن الذات، وهذا ما تسقطه النصوص والمخيلة الشعرية على مفردات العلاقة الجسدية ومراحلها.
النصوص كذلك تمثل حالا شاملة من المجون والعربدة والتمرد على الأطر التقليدية والذات التي تصدح بالحقائق، فثمة حضور للخمر ومفرداتها وللمجون والعربدة وتصبح النصوص مباراة عقلية وشعورية حافلة بالتقلبات والتلاعب باللغة وحافلة بالصور والاستعارات والانزياحات التي تبدو النصوص معها ناحتة للغة جديدة وتذهب إلى استخدام خاصة وطازجة.
على أن هذه النصوص تتراوح بين الحسية والرومانسية بانتقالات ناعمة ومتدرجة وهكذا تبدو النصوص غير محصورة في حدود اللذة الحسية وإنما تمزج الروحي والعاطفي بالحسي، وتنشد نوعا من الراحة والسعادة الشاملة والكلية، سعادة للعقل والروح والبدن، سعادة المغامرة والتجربة المختلفة، لذة الهروب والالتجاء والاحتواء في الوقت نفسه، فتتشكل عديد المعاني وتتوالد من رحم هذه العلاقة التي قد تبدو لأول وهلة أنها فقيرة أو محدودة، في حين تكشف الموهبة الشعرية والاستخدام الفعلي عن قدر ثرائها وانفتاحها على المطلق.
خذي فتافيت روحي
من شجر المقت
مزقي أستار الكآبة
ابعثيني حيا من جديد.
هنا في هذه الصورة لا يبدو الرجل مجرد ملتذ بالجسد، ولكنه حاضر بكل أبعاده ويرجو السعادة بشتى أشكالها، حاضر بأحزانه وكآبته ومقته، ونلمس أن الصورة الجديدة تنبع بشكل عفوي من المشهد أو الحالة الشعرية، فنجد أستار الكآبة صورة شعرية تتسم بقدر كبير من الطرافة والتوفيق، لأن الكآبة هنا تتحول بشفافيتها إلى ستارة تحتجز الهواء وتضيق النفس وتجلل الإنسان في مكانه وتحاصره وتمنع عنه الضوء، في حين فتحها أو تمزيقها يسمح للنور وهو هنا نور داخلي نفسي، ليس شيئا آخر غير نور اللذة والانتشاء بفرحة اللقاء. والمقت يصبح شجرا، ينمو ويتكاثر وتتشابك فيه الروح أو ربما يتغذى هذا الشجر على فتافيتها. فهنا ينكشف قدر انسجام الصور الشعرية مع بعضها وتناغمها وذلك لكونها ناتجة من بؤرة شعورية وتخيلية واحدة وكلها ابنة حال من التماسك الشعري أو السيرورة الشعرية التي تتدافع ببعضها دون انفصال أو فصل بين التخيل والتعبير والحالة الشعورية. فوحدة كل هذه العناصر الشعرية تصنع مشهدا متماسكا يعكس دقة الحال الشعرية التي يقاربها هذا المشهد. والحقيقة أن في نصوص هذه المجموعة طاقات سردية كبيرة وتتسم بالمشهدية، ولكن المشاهد غالبا ما تبدأ وتنطلق من بؤرة ضيقة لتحلق بعد ذلك خارج حدود الجسد وخارج حدود الزمان والمكان أحيانا، فكأن حال اللذة المهيمنة تجعل الإنسان منفلتا تماما من كافة الحدود، فهنا ليس ثمة هروب بالجسد فقط، ولكنه هروب بالعقل والروح كذلك، وهو نوع من التناسي أو نسيان كل شيء.
وهكذا فإن المرأة تتجاوز صورتها المحدودة والتقليدية لتصبح كائنا أسطوريا يملك قدرات سحرية خارقة، قادرة على المنح والمنع وصناعة إنسانها الجديد، بل صهره وتشكيله من جديد. والطريف بالنسبة للقارئ هو قدرة هذه النصوص التي تتأسس على فكرة اللذة الجسدية والعلاقة الحميمة بين الرجل والمرأة على أن تتمثل حكايات التاريخ وقصصه وأساطيره وتستحضرها في إطارها التعبيري أو القولي، فكأننا أمام ذهنية ذات شاعرة مهما حاولت الانفلات فإنها لا تتمكن منه كاملا وبخاصة ما يثقل الذاكرة ويشكل وجعها الدائم أو الأبدي واللصيق بالروح، فتحلق الذات الشاعرة بعيدا ولكنها تظل تحمل بداخلها نثارا من أوجاعها التي تحضر في إسقاطات تاريخية وأساطير دينية وصراعات وحروب قديمة هي جزء من العقل الجمعي. فجمالها وجسدها يذكر بحرب الخليج أو بحرب لبنان أو بخيانات بعينها أو بسلب طريق الحرير والاستيلاء عليه، وتتجلى هذه العلاقة أحيانا في إطار مقدسة، وتتلبس بها هذه الظلال الدينية عبر لغة رمزية وتصويرية مخاتلة وفيها قدر من اللعب والمراوغة، على نحو ما يقول:
أدفع قطيع الوعول باتجاه الخطر
يوغل أحد الثيران في كهف اللذة
ينطح التيس بقرنيه الهواء،
دلني أيها النبي
أين تكمن فائدة الزكاة بعد تمام الحشرجة
فضيلة الصيام عند باب الجحيم.
على أن فكرة الرمز واللعب باللغة لتمتد وتظل راسخة وتمثل نسقا ثابتا نابعا من العقل الشعري مدعومة بحال من الثقة في الاتصال مع المتلقي الذي يدخل هذه اللعبة سريعا، أو يصبح الشاعر مؤسسا لعلاقة اتصال معه من البداية تدعم هذه الرمزية وتجعلها مشتركة بينهما، لأن أي رمزية مستغلقة تماما على المتلقي هي نوع من العبث وهي مجرد حال ذهنية ينغلق عليها عقل الشاعر ومن ثم نصه كذلك، لكن هذا لا يحدث لأن الشاعر عبر علامات أكثر وضوحا وصراحة تحضر على مسافات بعينها فتدعم هذا الاتفاق أو المواضعة القائمة بين الشاعر/النص والمتلقي.
تجسد المشاهد السردية في نصوص هذه المجموعة أشكالا عديدة من الحركة والحيوية والنبض، فهي مرتكزة بالأساس على حركة جسدين يبدوان في مباراة ويصبحان هما جوهر حركة الكون، ولهذا فإن هذا الطابع الحركي يدعم جمالية النصوص لكون المتلقي يبدو متابعا منتبها لحال من الأخذ والرد والتفاعل والتصاعد والانفجار والوحشية والهدوء والاستكانة في بعض الأحيان، فتكون هناك وتيرة متغيرة أو متفاوتة تسهم في تشكيل الشعرية وإنتاجها، لأن الشعرية في جوهرها قد تكون نابعة من مطلق فكرة التنوع وتعدد النغمات وليس غلبة وتيرة أو نغمة واحدة وهيمنتها على فضاء النص. يبدو الكون عبثيا في ضوء النظر له من زاوية اللذة الجسدية ونافذتها، ولهذا فإنه يمكن القول بأن بالنصوص ظلال حال من العدمية والرغبة في التحلل من القضايا والأسئلة الكبرى التي تبدو مزعجة، فيكون هناك عمد لإهدار الوقت وإهدار الأرض والوطن وإضاعة الشعب بأسى أو دون أسى أحيانا، ببكاء وحزن أو بغير أي شيء من الأسف في أحيان أخرى. يقول: الماء يدفق من ذاكرة التاريخ/ يسابق الحرمان/ يفرض شروط الانكسار/ أضعنا هناك بلادا نيئةً/ شعبا طيبا وحياةً غامضة). وأحيانا تكون الرغبة عن عمد في تشكيل أو تكوين وطن من سراب أو جمهورية من لهب. على حد تعبير النص الشعري العامد إلى الاستغراق في حال من العبثية والهزل، والحقيقة أن هذه هي مساحة مهمة من مساحات الشعر الجديد أو شعر ما بعد الحداثة وما بعد بعدها، وهي المساحة المتمثلة في الانفلات من كل ما قد يكون حالة من وهم الأفكار الجماعية والاستغراق في لذة حسية وفردية وعدم الاعتناء بالشعارات وما كان يتم تداوله في الماضي على اعتبار أنه من المسلمات والحقائق المطلقة لمجرد أن الجماعة البشرية أو الإثنولوجية أو القبيلة ترددها وتتوافق عليها، فيكون الصوت الشعري خاضعا تماما للجماعة، أما الجديد فهو الانفلات التام من هذه النزعة والتحرر التام وجعل الإنسان هو مركز الكون ولذته الحسية تحديدا هي الغاية الكبرى والحقيقة المطلقة، وهكذا تكون هذه النصوص الشعرية مالكة لحساسية خاصة تجاه الإنسان والعالم وقضاياهما وهي تلك النزعة الإنسانوية، والحقيقة والطريف والمفاجئ بالنسبة لي شخصيا أن موسى حوامدة لا ينطلق في هذا الاتجاه العالمي من زاوية الوعي بالشعر العالمي وحسب وإنما يربطه بجذوره القديمة التي كانت لدينا في الشعرية العربية، فالحقيقة أن هذه النزعة الإنسانوية الحسية كانت حاضرة في الشعر العباسي تحديدا وبخاصة عند زعيم هذه النزعة الشاعر الفذ أبي نواس الحسن بن هانئ الذي اعتنى بالفردي والحسي والإنساني وضيق زاوية الرؤية على التفاصيل اليومية والتداولية وغاير في اللغة والتوجه الشعري عموما، بل تتبدى لديه ولدى أبي العلاء المعري تلك الروح العدمية التي تهيمن على الشعر العالمي في الوقت الراهن.
ثم طرائق كثيرة للتصرف القولي في هذه النصوص وأشكال عديدة للمغايرة في وضعيات القول الشعري، بأن يخاطب الشاعر ذاته مرة أو يخاطب أنثاه أو يحاور ويجادل ويناقش أو أحيانا نبدو كما لو كنا أمام نوع من الهذيان والعبثية القولية الناتجة عن الانضغاط باللذة أو الوقوع تحت سياط نارها أو جحيمها الذي هو ذاته قمة النعيم. وعلى هذا النحو فإن بهذه النصوص حوار كبير متفاوت المستويات والنغمات وإن كان دائما من طرف الذات الشاعرة فقط، فنادرا ما يستنطق المرأة أو يجعلها تقول شيئا، فيكون العالم حاضرا عبر زاوية نظر ذات واحدة مهيمنة لكنها متنقلة ومتجولة وكأنها ذات فوق بشرية قادرة على الرؤية من زوايا عديدة.