الدكتورة رهام زهير المومني –
الأول نيوز – من منّا لا يعشق الموسيقى، من منّا لم تؤثر في عواطفه وأحاسيسه حين يسمعها، من منّا لم يفرح، يبكي، يحزن حين يسمع لحنًا فيتذكر أحلى لحظات الماضي ويشعر بطاقة وحيوية لأيام مقبلة، أو تذّكر موقفًا أبكاه، كم منا نبضَ قلبه بالحب والسلام والهدوء، فالموسيقى غذاء الروح ولغة الحياة، هي البلسم للتداوي من آلام الحاضر ونكباته، وأمل المستقبل، وكما قال أفلاطون عندما تترك الكلمات تبدأ الموسيقى.
لست خبيرة في علوم الموسيقى، لكن إحساسي بها عميق، ذات يوم زرت صديقا ذا مكانة علمية واجتماعية مرموقه، عندما دخلت مكتبَهُ شعرت براحة وهدوء غريبين بعد نصف يوم حافل بضجيج وإيقاع مزعج، سألته ما هذه الأجواء الجميلة التي تعمل بها، وكيف تستقبل ضيوفك والمسؤولين بوجود الموسيقى؟ فرد علي بعبارة.. الأصل أن نرتاح لنعمل، نهدأ لنفكر، نغذي أرواحنا لنبدع، جذبني الحديث، أثارَ بّي الحّس المرهف وبعث فيّ الأمل والتفاؤل.. وأسهبَ بحديثه ونصحيته وكأنه شعر أن صخب الحياة جرفني وأرهقني وما زلت في ريعان الشباب، قال لي أعطِ من وقتِكِ لنفسك وأحبيها كما تعطي لغيرِك، فأنت الأهم والأجمل، وعندما تكونين مرهقة اسمعي موسيقى تزيل عنك الإرهاق وتهّدئ من روعم وتخفف من قلقك، فهناك لكل ظرف وحالة نوع يناسبه، عندما تريدين القراءة ستشعرين بالمتعة، وعند النوم سيزول القلق، وعندما تريدين أن تكوني في قمة طاقتك وعطائك ستجعلكِ تحلقين كفراشة بعالمك الساحر، وعند العمل ستنجزينه بفاعلية ودقة، فلك أن تختاري أي نوع من الموسيقى تناسب حالتك وظرفك، وجميعها سيؤدي إلى الهدف المراد تحقيقه.
كانت زيارة لا تُنسى، فهو رجل مؤثر وإنجازاته عظيمة، أخذت بنصيحته وعرفت معنى أن تطبق ما تشعر به، فلا يكفي أن تحب الموسيقى من دون ان تسمعها، قلدتهُ وبدأت أطبق نصيحته ليتكرر سيناريو زيارته لكل من زارني وشنّفت سمعهُ موسيقاي الجميلة.
عندما تكون الموسيقى هي الأمل الوحيد للعودة إلى الحياة بعد دمار، كان هذا شعار سيدة مُسنّة بعد يوم من الانفجار المدمر الذي هز مرفأ بيروت، فنشرت مقطع فيديو يظهرها وهي تعزف مقطوعات موسيقية على البيانو بعد عودتها إلى منزلها المتضرر وكأنها تقول لا تحزنوا فلبنان سيرجع وغدا سيكون أجمل.
لست خبيرة بأنواع الآلات الموسيقية فهي متعددة ولها استخدامات كثيرة وأشخاص يبدعون فيها، عندي أصدقاء وصديقات منهم من يعزف على القانون ويبث رسائل عبرهُ فينشرها كالورد، ومنهم من يعزف على العود ليعودَ بنا الى ذكريات جميلة تُضفي على الجو مزيدا من الحنان والحب والصفاء، ومنهم من يتنقل بأصابعه كالفراشة ليخرج أحلى ما لديه، وكم تمنيت أن أتمكن من العزف على البيانو فهذه هواية عشقتها منذ نعومة أظفاري، ولا أعرف منها إلا عزف السلام المَلِكِي الأردني، فالبيانو بالنسبة لي تحفة فنية له قيمة جمالية وفنية وروحية، فالقيم تعتبر من عناصر الثقافة الاجتماعية، ووسيلة لإشباع حاجات الإنسان المتمثلة في الذوق والفن والوجدان، فهي تنمية للعقول وللنفوس. وكلما زادت القيم الجمالية بنظرنا زاد معها أدب سلوك الأفراد والمجتمعات، فعازفو البيانو وبعض الآلات الموسيقيه هم أصحاب ذوق وفن وأصالة، ينقلوننا إلى عالم افتراضي نعيشه، فأولئك الذين يرقصون يظنهم مجانينَ الذين لا يستطيعون سماع الموسيقى.
في جائحة كورونا وخلال الحظر المنزلي، برز العديد من المواهب لدى العديد من الناس وعشنا أياما تعلقنا فيها بخيط أمل وكان شعارنا أن القابل أجمل، سمعنا الموسيقى، ولما ضاقت بنا الحياة وفُصلنا عن الواقع للحظات عُدنا لسماعها، فالقلب ممتلئ هموما متراكمة وفيه متناقضات عديدة، والحياة مجنونة وحنونة وستبقى تفاجئنا وتضربنا وتفرحنا، فموج البحر متغير وسنعيش مع أي ظرف ونتكيف معه ونتوافق .
أخذتنا مشاغل الحياة عن أشياء أحببناها وتمنينا أن نكون قد تعلمناها وعشناها، وما زال عشقي للبيانو كما وأنا صغيرة، فهل سيأتي يوم وأتعلم وأنُمّي هذا العشق كغيره من المواهب المدفونة فينا التي لم نستطع إخراجها إلى الفعل؟