مساحة خضراء…ممنوعة على الكورونا!

الخوري أنطوان الدويهي –

الأول نيوز – دخلتُ غرفتي مساءً، ورحتُ أراجع يوميّاتي طوال الشهر الأوَّل من هذه السنة المباركة. بلاد كثيرة ما زالت تحجر مواطنيها منعًا لزيادة انتشار جائحة الكورونا بينهم. بلاد استطاعت أن تسيطر على الوباء بشكل شبه كامل. بلاد بدأت تلقِّح مواطنيها بلقاحات ضدّ هذا الوباء الفتّاك. وما زال الموضوع الأبرز في نشرات الأخبار هو وباء الكورونا.

وانتقلت بالفكر إلى منطقة في أثيوبيا استوقفتني كثيرًا. جماعات من المتوحّدين، يعيشون جماعات وأفرادًا، تعرَّفت إليهم عبر راهب زارهم في الآونة الأخيرة وأمضى معهم زهاء ستَّة أشهر. لم تدخل “الحضارة” بعد إلى مجتمعهم. ما زالوا يستعملون حتَّى اليوم أدوات بدائيَّة يصنعونها بأنفسهم للحراثة والزراعة والطبخ والأكل ولحاجات حياتهم اليوميَّة. يقضون معظم نهارهم بالصوم والصلاة، يأكلون مرَّة في اليوم وأحيانًا مرَّة كلَّ يومين. لا يحتاجون إلى طبيب لأنَّهم لا يعرفون معنى المرض. فجميع الأمراض تأتي من الأكل. هذا متوحِّد يعيش في العراء، وآخر في جوف شجرة، وذاك يقضي أيَّامه متنقِّلاً من مكان إلى آخر، طلبًا للارتقاء نحو العلاء…

جماعة في عصرنا تعيش العصر الحجريّ، والسعادة تكتنفها. لا تعرف حياة الرفاهيَّة، حتَّى الكهرباء لم تجد دربًا إليهم. يفترشون الأرض للقعود، وفراشًا للنوم من جلد الحيوانات مليئًا بالبراغيث مسندين رأسهم على وسادة من حطب. مساكنهم بسيطة من الخشب والقشّ. لا يخافون من الحيوانات التي أضحت رفيقة لهم، بل يخافون على أنفسهم من الغرباء الذين يحاولون نزع السكينة من ربوعهم الهادئة.

هي بقعة من الأرض لم يصلها وباء الكورونا. وربَّما تجد بقعة أو أكثر على شاكلتها في بقاع الأرض الواسعة. وإن سمعت بالوباء، فهي لا تكترث له. فلا أحد يخالط أحدًا، وكلُّ واحد يعيش في حجرة خاصَّة به، حتَّى في المأكل، لأنَّ طعامهم يقتصر على بعض الخبز اليابس المصنوع بطريقة بدائيَّة وبعض البقول التي تُخرجها أرضهم… أمّا جسمهم فهو قادر أن يتحمَّل حرَّ الصيف وصقيع الشتاء لأنَّه اعتاد على حياة العراء.

وبينما العالم يعيش الذعر والحَجْر والانغلاق على الذات خوفًا من انتقال الوباء الفتّاك، تعيشُ تلك الجماعة في سكينة وهدوء لا يعكِّر صفو راحتها أيُّ وباء أو مرض. لا تشعر بالضجر ولا باليأس ولا بالقنوط، تصلّي على نيَّة العالم أجمع، والعالم غافل عنها، بل هو لم يسمع بها. ويا ليته لا يسمع بها لتبقى بعيدة عن “شرِّه”!

مع تقدُّم العلم والطبّ والتكنولوجيا، تتفاقم الأمراض وتنتشر الأوبئة ولاسيَّما مع ابتكار الأسلحة الكيميائيَّة الفتَّاكة، والموادّ البلاستيكيَّة والمسرطنة لاستعمالها في مرافق الحياة كلِّها. فالإنسان العالِم الذي يسعى إلى تطوُّر المجتمعات وتقدُّمها، يبتكر معها “أسبابًا” للسيطرة أو للقضاء عليها.

بعد هذه “الحرب العالميَّة” التي لم يُستعمل فيها أيُّ سلاح فتّاك، والتي يموت فيها يوميًّا أعداد كبيرة من البشر، لن تبقى سليمة سوى تلك المساحة الخضراء التي لم تعرف للتمدُّن سبيلاً. هي جنَّة على أرضنا حيث يعيش الإنسان مع خالقه، يعمل معه، يلهو معه، يتمشَّى معه؛ وإن مات ينتقل من حضن ربِّه الشمال إلى حضنه الآخر.

عن الأول نيوز

شاهد أيضاً

الطبيب المزيف والأحذية العلاجية!

محمد الرميحي- الأول نيوز – طبيبة أمريكية في إحدى الولايات، ظهرت على جمهورها من خلال …