الخوري أنطوان الدويهيّ –
الأول نيوز – التقيتُ بإحدى الراهبات التي تلقَّت اللقاح ضدَّ الكورونا، فأخبرتني ما يلي:
لم أشعر بأسى بقدر ما شعرتُ به عندما توجَّهتُ إلى مأوى العجزة لتلقّي اللقاح هناك ضدَّ الكورونا. معظم العجزة موضوعين على كراسٍ نقَّالة، ينتظرون دورَهم بهدوء، والصمت مخيَّم على الجميع، كأنَّهم محكوم عليهم بالإعدام ويتوجَّهون إلى المقصلة. الحزنُ بادٍ على محيَّاهم، والخوف ظاهر في عيونهم، بل أحسستُ أنَّ النوم جفاهم منذ زمن بعيد. أتُراه الخوف من الإصابة بالكورونا؟ أم تُراه الجزع من غدٍ قد لا ينبلج؟ أو تُراه الرعب من عذابٍ قد يتعرَّضون له فوق عذابهم؟
وبدأت عمليَّة التطعيم. وما إن خرج العجوزُ الأوَّل حتَّى بدت سحنته متغيِّرة، وصرخ فجأة بأعلى صوته: لقد أخذتُ التطعيم. يا لفرحتي! ما عدتُ خائفًا من الكورونا. أستطيعُ أن أنام الليلة قرير العين. هيَّا، هيَّا، ماذا تنتظرون؟ ادخلوا إلى غرفة النجاة…
انهمرت دمعتان من مقلتيَّ وأنا أستمع إلى كلام العجوز، ونظرتُ إلى وجوه العجزة، رأيتُ البسمة تعود إلى وجوههم، والأمل بفجر جديد يتغلغل إلى داخلهم، بل راحوا يتبادلون بعض الأحاديث وإن بصوت خافت.
وفجأة، دخل شابٌّ لم يتجاوز الخامسة والثلاثين من عمره إلى الغرفة. كانت الابتسامة تعلو ثغره. ولمّا رآني، قاد كرسيَّه النقَّال نحوي، قائلاً لي: يا أختاه، كم أنا سعيد برؤيتك! أتعلمين أنا الشابُّ الوحيد بين إخوتي العجزة. تعرَّضتُ لحادث سيَّارة وانشلَّت رِجلاي، وليس هناك مَن يعتني بي، فنُقلتُ إلى هنا. أنا بينهم كالمهرِّج، أضع البسمة على وجوههم وأعتبرهم جميعًا لا بل أناديهم “أولادي”، وهذا يزيدُ من فرحهم معي وحبِّهم لي. ولكن، في الآونة الأخيرة، أحاول المستحيل أن أفرِّحهم، لكنَّهم فقدوا كلَّ أمل. وها هو اللقاح يعيد إليهم بعض الأمل الذي فقدوه.
- ومن أين لك هذا الفرح؟
- أنا شابٌّ ملتزم دينيًّا. أصلّي يوميًّا فترة طويلة. وهذا يمدُّني بالفرح ويجدِّد فيَّ الإيمان. وعندما أصبتُ بالشلل، وبينما تأسَّفَ عليَّ جميع معارفيَّ، رحتُ أنا أشكر الله لأنَّه جعلني أمرُّ بهذه المحنة، لأقترب منه أكثر فأكثر. فهنا أقضي وقتي بالقراءات الدينيَّة والصلوات المتواصلة التي لا تنتهي. وهذا يجعلني فرِحًا طوال الوقت. وأرى من واجبي أن أضنع الفرحة والبهجة في قلوب عجائز أضحى تفكيرهم متشائمًا،وراح بعضهم يُعدِّدون أيَّامهم حتَّى تنتهي، متوقِّعين يوميًّا غياب أحدهم ومنتظرين أكثر موعد رحيلهم. حوَّلتُ المأوى إلى مُصلَّى بعد جهد جهيد، والتزم جميع النزلاء بالصلاة معي بالرغم من تنوُّع الأديان والطوائف. فصلاتنا عفويَّة تنبع من القلب وتتوجَّه مباشرة إلى قلب الله.
- غريبٌ أمرك وجميلة قصَّتك؟
- أنا أشعر بالفرح من جرَّاء صلاتي، فلمَ لا أجعلهم يشعرون معي بالفرح ذاته؟ أتعرفين يا أختاه، أنا الذي حمَّستُهم لأخذ التطعيم، وأنا أنتظر الآنَ هنا ليتطعَّم جميعُ العجزة حتَّى أتطعَّم أنا، بعدما يطمئنُّ قلبي على أنَّ “أولادي” تلقَّوا اللقاح. فالصلاة وحدها لا تكفي أحيانًا، بل نحتاج إلى أن نرى أمورًا ملموسة…
وراح العجزة يخرجون الواحد بعد الآخر وقد تغيَّرت سحنتهم، وتجدَّدت حياتُهم، وعاد الأمل بفجر جديد، وعمر أطول…