الخوري أنطوان الدويهيّ –
الأول نيوز – لن يفرح بالعيد الحقيقيّ إلاَّ من هيَّأ نفسه بالصوم والصلاة والصدقة (أو الزكاة). والصوم الحقيقيُّ هو الامتناع ليس فقط عن المأكل والمشرب بل أيضًا عن الشرّ وفعل الإثم، وترويض النفس على فعل الخير واقتناء الفضائل الإنسانيَّة.
فما أجمل هذا الشهر الفضيل وما أجمل معانيه! كنتُ في مركز للعلاج الطبيعيّ، عندما تحلَّق ثلاثة من المعالجين حول شيخ يعاني من آلام في الركبتين في غرفة لا يفصل بيننا سوى ستار من قماش. وبينما أحدهم يعالج الشيخ، راح الاثنان الآخران يسألانه بما يتعلَّق بالصوم، فقال لهم: “يا أولادي، فُرض علينا الصوم لأنَّ الإنسان بطبعه شهوانيّ. وإذا لم يعتدْ على الامتناع عن الطعام وعن فعل الشرّ، لتمادى فيهما وفي غيرهما من أمور الحياة التي يحسبها مباحة له، بينما هي في الواقع، وإن كانت مباحة، لكنَّها في معظمها مضرَّة له. فكثرة الأكل مثلاً وهي الشراهة، وإن كانت مباحة، فهي مضرَّة للصحَّة، وكذلك كلُّ عمل آخر فاق حدُّه يضحي مضرًّا. فأتى الصوم ليقوّي إرادة الصائم للتغلُّب لا على الشرّ وحسب، بل على التمادي في ما هو مباح له.”
عندئذٍ طرح أحدهما سؤالاً: “ولكن ما نقوم به بعضنا ليلاً يدخل أحيانًا حدَّ الشراهة.” فأجاب الشيخ: “نأكل ليلاً ما يقوّي جسدنا على احتمال صوم النهار، وما يحمل هذا النهار من أتعاب وأعمال وحرّ أو صقيع. يجب عدم المبالغة في الأكل ليلاً، لئلاَّ يفقد الصوم معناه. وكم هو جميل لو ترافقت مع الصوم أعمال التقوى والزكاة!…”. وسكتَ الجميع وما عاد أحد يجرؤ أن يسأله شيئًا.
مبدأ الصوم واضح لدى جميع الديانات. لكنَّ التطبيق لدى عامَّة الشعب، يأخذ منحى مختلفًا. كم من مسيحيّ يدَّعي أنَّه يصوم الصوم الأربعينيّ ويده طويلة ولسانه لا يتوقَّف عن التجديف والنميمة والافتراء والكذب ولا يرحم أحدًا! وكم من مسلم يصوم شهر رمضان ولا يعرف قلبه الرحمة بينما الله هو “أرحم الراحمين” أي أنَّه أرحم من المؤمنين الذين يجب عليهم أن يرحموا على مثال الله الذي يرحمهم.
ما أحوجنا في عصرنا إلى معلِّمين يعلِّموننا بمثلهم المعنى الحقيقيَّ للديانة، أكثر من منظِّرين يفرضون فروضًا ثقيلة وهم لا يتقيَّدون بها!
الصوم زمن فضيل. بدأ هذه السنة في منتصف شهر شباط مع الكنيسة الكاثوليكيَّة وتتابع مع الكنيسة الأرثوذكسيَّة ويستمرُّ مع الديانة الإسلاميَّة حتَّى منتصف شهر أيَّار. ثلاثة أشهر من الصوم مترابطة علَّها تجمع القلوب والشعوب في وحدة وسلام، في أُلفة ومحبَّة، في تقارب وانسجام.
فالمؤمن الحقيقيّ لا يميِّز بين دين وآخر، وبين طائفة وأخرى، بل ينظر إلى الإنسان نظرته إلى أخ، خلقهما الله الواحد من طين ونفخ فيهما من روحه الحيّ والمحيي، ليتفاعلا معًا، ويعملا معًا لأجل إنسانيَّة أكثر إنسانيَّة… علَّنا نتوصَّل يومًا إلى عيد حقيقيّ يُسعد الجميع!