الدكتور أيمن سلامة * –
الأول نيوز – رغماً من تضارب الأنباء حول الصراع المسلح الدائر في إثيوبيا و الذي رَوجت له العديد من وسائل الإعلام الأجنبية باقتراب نمور التيجراي ( الميليشيات العسكرية التيجرانية ) من غزو العاصمة أديس أبابا و إسقاط نظام المتسلط آبي أحمد ، لكن ما وضح جلياً في الأسابيع الأخيرة هو التحول المباغت في عقيدة القتال العسكرية التيجرانية من حرب العصابات التي نجحت في صد الهجوم الإثيوبي المدعوم بالقوات الجوية و البرية الإريترية ، إلي الحرب الخاطفة (حرب البرق ) في محاولات حثيثة من نمور الشمال التجرانيين إختراق القوات الإثيوبية في أكثر من جبهة ثم إلحاق الهزيمة العسكرية الكاسحة في نهاية الحرب .
بادئ ذي بدء ، السائد بين الفقهاء أن مصطلح ” حرب العصابات ” كلمة مشتقة من اللغة الإسبانية “الحرب الصغيرة”، و تتوافق في مضمونها في اللغتين الفرنسية و الإنجليزية المستخدمتين في القرن الثامن عشر ” الحرب الصغيرة ” ، وفي اللغة الألمانية ” المعركة السرية” ، وفي اللغة الروسية “حرب التخريب ” .
بالرغم مما سبق ، تظهر بعض الخصائص المحددة جيدًا لحرب العصابات من بين هذه الخصائص : الكفاح المسلح لمجموعات صغيرة جدًا تحارب العدو الأكثر تسليحا و تنظيما و عتادا ، مع استقلالية تكتيكية معينة لمن يخوضون هذه الحروب الخاصة غير النمطية ، فحروب العصابات تشنها وحدات صغيرة ومنفصلة تشكل تعمل مجموعات حرب تقاوم العدو باستقلالية ملحوظة ، ولكن تتعاون مع القوات المسلحة النظامية أو تكون جماعات إرهابية أو عصابات أو ميليشيات حزبية تنتمي لأحزاب سياسية في الأساس ، وتتبع هذه المجموعات القتالية الخاصة تكتيكات القتال الخاصة لهذه المجموعات أو الوحدات الصغيرة ، والتي تتميز بأقصى قدر من الحركة والسرعة ، من خلال اتصالها السريع بالعدو بسرعة البرق من خلال هجمات سريعة مباغتة تبخت العدو ،و تشل إرادته و تفكيره و تخطيطه للمعارك المقبلة .
لا يقتصر شن حروب العصابات علي المهارات و الخصائص العسكرية العالية للعناصر التي تخوض مثل هذا النوع من الحروب ، و لكن الإيمان الراسخ بعدالة القضية التي يحارب من أجلها هؤلاء يمثل حجر الأساس بل عمود الرحي الذي تتمحور حوله المفاهيم و المحددات و عوامل نجاح حروب العصابات ، بل و الفترة الزمنية التي تخوضها هذه المجموعات و إن كانت تمتد لفترة طويلة نسبيا مقارنة بالحروب و المعارك النظامية التي تخوضها الجيوش النظامية للدول ذات السيادة .
في ذات السياق ، يجب توضيح مفهوم حرب العصابات من خلال المعرفة النقدية لمختلف الحالات الملموسة ، مع الأخذ في الاعتبار ، من بين أمور أخرى ، نوع الدافع الكامن وراءها ، حتي يسهل التمييز بوضوح بين حرب العصابات والإرهاب أو اللصوصية أو أية أفعال جرمية حقيقية، لذلك لا يمكن فصل حرب العصابات من الناحية المفاهيمية عن المبادئ السياسية أو الأخلاقية أو الأيديولوجية لمن يمارسونها، فهي ليست تقنية أو مهنة ، ولا يمكن اختزالها في الاستخدام العشوائي للعنف.
هناك العديد من الأمثلة التاريخية لحروب العصابات التي خاضتها المغاوير ، وندلل علي هذه الأمثلة بثورة الهولنديين المناهضة للإسبان ، والتي استمرت ثمانين عامًامن 1568 إلى 1648،و حرب الاستقلال الأمريكية عن الإنجليز 1776-1783 ،و الثورات البولندية ضد الروس في عامي 1830 و 1863 ،فضلا عن حرب العصابات التي شنتها المقاومة الشعبية في مدينة السويس أثناء حرب أكتوبر المجيدة 1973 ، و أحبطت محاولات الإسرائيليين اقتحام مدينة السويس .
أما إثيوبيا ، فقد شهدت النموذج الصارخ للتدليل علي حروب العصابات التي وقعت علي الإقليم الإثيوبي ، و لن تقتصر بالطبع علي الحرب التي تخوضها الأن ميليشيات مختلفة لإقليم التيجري ضد الجيش النظامي الفيدرالي الإثيوبي ، فحروب العصابات في أثيوبياهي التي هزمت الغازي المحتل الإيطالي في نهاية عام 1941 ، وهي ذات الحروب التي أسقطت بعد نيف وثلاثين عاما الإمبراطورهيلاسيلاسي عام 1974 ، ثم نجحت ميليشيات التيجراي في صد العدو الإريتيري بنهاية الحرب الإريترية الإثيوبية عام 2000، بعد أن كان التيجريون تحالفوا مع الإريتريين في إسقاط ” منجستو” في العاصمة أديس أباب عام 1991 .
أما الحرب الخاطفة فهي مصطلح يستخدم لوصف طريقة الحرب الهجومية المُصممة لضرب ضربة سريعة ومُركزة على عدو باستخدام قوات متحركة وقابلة للمناورة ، بما في ذلك الدبابات المدرعة ، والدعم الجوي الذي تفتقرإليه بالطبع ميليشيات التيجراي ، و يؤدي مثل هذا الهجوم بشكل مثالي إلى نصر سريع ، مما يحد من فقدان الجنود والمدفعية و المدرعات بشكل عام .
الحرب الخاطفة كُنِيت أيضا بحرب البرق في الأدبيات الألمانية حيث تتضمن هجوما مفاجئا سريعاً يركز القوة التي قد تتكون من تشكيلات المدرعات و آليات أو المشاة الميكانيكية جنبا إلى جنب مع الدعم الجوي القريب بنية إختراق خطوط دفاع الخصم ، ثم
تشتيت المدافعين ، وإخلال التوازن بالعدو حيث يصير من العسير علي العدو صد الهجمات الخاطفة علي أكثر من جبهة كما الحال تماماً في الحالة الإثيوبية ، وفي النهاية إلحاق الهزيمة بالعدو .
نجحت جحافل النازي الألماني في عديد حملاتهم العسكرية في أوربا 1939-1941 ولكن كان النجاح الأبرز في غزو بولندا أثناء عام 1939 ، ومنذ ذلك الحين استخدم مصطلح الحرب الخاطفة التي تشترك فيه المدرعات و الأليات العمليات الميكانية علي نطاق واسع في أكثر من جبهة عسكرية .
ويتلخص أيضا مصطلح الحرب الخاطفة في استخدام أحدث التقنيات بأكثر الطرق فائدة وفقًا للمبادئ العسكرية التقليدية واستخدام “الوحدات المناسبة في المكان المناسب في الوقت المناسب”.
ختاما ، لا يمكن الجزم بنجاح أو فشل الهجمات الخاطفة المختلفة التي تقوم بها ميليشيات التيجراي و التي لا تستهدف في المقام الأول العاصمة أديس أبابا و لكن استنزاف الجيش الإثيوبي و فك الحصار عن تيجراي و إيصال المساعدات الإنسانية الضرورية للتيجرانيين في الشمال .
* ضابط الإتصال السابق في حلف النيتو