-
د. سليمان صويص –
الأول نيوز – بالرغم من اقترابه من عقد التسعينات من العمر، لا يزال الأستاذ حسني عايش يُدهشنا ﺑ «شبابه» الفكري، واستمراره في ممارسة الدور التنويري والتربوي الحيوي الذي اضطلع به منذ ما يقارب السبعين عاماً. يشهد على ذلك مقاله الأسبوعي في الزميلة «الغد»، وآخر إصداراته وهما كتابان صغيران في الحجم، لكنهما في غاية الأهمية: الأول يحمل عنوان «عصر ما بعد الحقيقة : كيف تحمي نفسك من التضليل المعلوماتي والعلمي»، والثاني «لا للجوائز ولا لفحوص الذكاء».
سوف أعرض اليوم للكتاب الأول الذي يعترف المؤلف في مقدمته بأن موضوعه كان «يلعب» بعقله منذ بضع سنين. لكن مجئ دونالد ترامب ـ نقيب الكذابين في العالم ـ إلى سدة الرئاسة الأمريكية «سرّع في دفعي إلى تناوله»، كما يقول، «كي أنبّه القارئ إلى طبيعة هذا العصر وموضوع وأساليب التضليل فيه». ويُضيفُ : «اتخذتُ الساحة الأمريكية مثلاً ومصدراً لهذا العصر، او لهذا التضليل، وموضعاً لهذا الكتاب، لانه موثّق، ولأنه يفيض على العالم ويخدعه به، فيردده ويستشهد به ويقلّده».
يؤكد المؤلف بأن التضليل المعلوماتي ليس جديداً تماماً؛ فقد مارسه الأقدمون، ولكنه لم يشكّل ظاهرة كما هو عليه الأمر اليوم. وساعد في ذلك ما يتدفق من وسائط الإتصال ووسائل التواصل الاجتماعي من أكاذيب وتزييف وتحريف وتضليل معلوماتي وعلمي، يزداد الطلب عليها من قبل جمهور واسع. حتى تتضح الصورة أكثر، يقول المؤلف : « قبل عصر ما بعد الحقيقة كان الناس الذين يكتبون في موضوع معيّن يفعلون ذلك لانهم اكتسبوا درجة من العلم أو المعرفة المتخصصة او الخبرة؛ كما كان يوجد رئيس تحرير ومحررون لكل صفحة في الجريدة، ومدقّقون للأخبار في الوسائط السابقة للأنترنت، كالإذاعة والتلفاز. لكن الأنترنت قضى على هذا النموذج، وبدمقرطته للمعرفة أتاح المجال لكل من هبّ ودبّ المشاركة فيه»، وإدّعاء العلم والمعرفة في أي موضوع، وإدّعاء امتلاك الحقيقة ! وعليه، فإن «عصر ما بعد الحقيقة»عدوٌ أكثر منه صديقاً، ومضلّلٌ أكثر منه معلّماً. ليست هناك حقيقة، وإنما نُسخٌ منها؛ ليس هناك حقائق، وإنما صراع إرادات : نعم اتضح أن هناك الآن «طاقة جمهورية» : طاقة النفط والغاز والفحم .. و«طاقة ديمقراطية» : طاقة الرياح والطاقة الشمسية والطاقة المائية.. صارت «الحقيقة» ما نريده وما نرغب فيه… لكن هل معنى ذلك أنه لم يعد للحقيقة من وجود ؟ طبعاً لا، الحقيقة موجودة، لكن يجب على المرء أن يبحث عنها، وان تطبّق معايير المصداقية عليها. وللنجاة من الآثار السلبية لعصر التضليل المعلوماتي والعلمي، فإن المرء يحتاج إلى اكتساب منهج التفكير العلمي ومهارة التفكير الناقد؛ فهما طوق النجاة في هذا البحر الهادر من التضليل. وللاسف، كما يقول المؤلف ـ انقسمت المجتمعات اليوم إلى قسمين : قسم صغير يبحث عن الحقيقة، وقسم كبير يتجنبها.
يستغرق جزء كبير من الكتاب أمثلة من التضليل المعلوماتي، كالاطباق الطائرة، ونظريات المؤامرة، وآخرها ما يتعلق ﺑ «كوفيد ـ 19»… والتضليل العلمي، كزعم شركات تصنيع السجائر بأن لا علاقة بين التدخين والسرطان، وهو زعم استمر لعقود قبل دحضه نهائياً. وهناك «أبراج الحظ» التي تتنبأ بأحداث حياة الإنسان اليومية، استناداً إلى الإيمان بتأثير الكواكب والنجوم على شخصية الإنسان وحياته ومصيره… وهناك «مثلث برمودا»الذي نسجت حوله الأساطير.. واخيراً، هناك «العلم الزائف أو المدّعي، والعلم الحقيقي». ويختم المؤلف كتابه بإيراد «دزّينة» من «الأخطاء العقلية» التي يجب تجنبها لضمان عدم الوقوع في أحابيل التضليل المعلوماتي والعلمي.. وهي بمجملها تدعو إلى ضرورة ممارسة التفكير الناقد، وطرح الأسئلة والملاحظة والبحث والتجربة؛ ولكن ايضاً تجنّب عبادة السلطة، او الإنجرار مع القطيع (الشعبوية)، أو الإنقياد العاطفي.
يبقى تسجيل ملاحظتين على الكتاب؛ الأولى تتعلق بكثرة الأمثلة التي يسوقها المؤلف عبر الكتاب؛ إذ كان بالإمكان اختصارها لأن القصد يتوضح من خلال إيراد بضعة أمثلة، ولم يكن هناك ضرورة لإيراد العشرات منها. الملاحظة الثانية : يبدو أن صديقنا الاستاذ حسني، المتأثر بالنتاجات الإيجابية التقدمية المشرقة للمطابع الأمريكية، قد فاته الإنتباه إلى أن طبيعة النظام الرأسمالي المتوحش السائد في الولايات المتحدة، والبيئة التي يترعرع فيها تشكّل الأرضية الخصبة والمثالية لتوالد ـ إن لم نقل تفاقم «عصر ما بعد الحقيقة» الذي يشرّحه بصورة دقيقة مثيرة للإعجاب. وإلّا كيف نفسر عدم تأثر بلدان مهمة ضخمة بهذا «العصر»، كالصين وبلدان آسيوية أخرى لا تزال الحقيقة تحتل فيها مكانتها المرموقة المحترمة ؟
تعتبر أفكار الفيلسوف الأمريكي «جون ديوي» هي السائدة في المجتمع الأمريكي، وقوام فلسفته تلخص في العبارة التالية : «كل ما هو مفيد لي…فهو جيّد»!.. ولذلك، ليس غريباً أو مفاجئاً أن نعرف ـ مثلاً ـ بأن هناك شركة في الولايات المتحدة قائمة منذ عام 2003 ومتخصصة في فبركة الاخبار الكاذبة ونشرها وتوزيعها؛ وبلغ رقم أعمال هذه الشركة عن عام 2019 ما يناهز الستة مليارات دولار! وطبعاً هناك الكذبة الكبيرة حول «أسلحة الدمار الشامل في العراق» لتبرير غزوه عام 2003 مشهورة، ومارسها حكام مثل جورج بوش الإبن وتوني بلير اللذين يستحقان التعليق على المشنقة لو كانت العدالة الجنائية الدولية مفعّلة.
بالرغم من هاتين الملاحظتين، فإن كتاب «استاذ التنوير في الأردن»، حسني عايش يستحق القراءة، خصوصاً ونحن نعيش في زمن أحوج ما نكون فيه لمعرفة الحقيقة … الحقيقية !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كتاب «عصر ما بعد الحقيقة :كيف تحمي / ن نفسك من التضليل المعلوماتي والعلمي»؛ حسني عايش، دار الشروق للنشر والتوزيع ؛ عمان ـ الأردن ؛ 2022