الخوري أنطوان الدويهيّ –
الأول نيوز – بينما كنتُ أعطي يومًا موضوعًا لأطفال صغار عن إكرام الوالدين، قاطعني ولد بدا متخلِّفًا عقليًّا، يكبر مجموعة الأطفال بضع سنوات وقال لي: “إكرام الأمِّ والأب أهمُّ من إكرام الوالدين”. وكأنَّ الموضوع لم يُعجبه، ترك الاجتماع ومضى. أمّا أنا فضحكتُ في سرّي، وأنا أردِّد ما قاله: “إكرام الأمِّ والأب أهمُّ من إكرام الوالدين”.
بعد الاجتماع، قرَّرتُ زيارة أهل الطفل المتخلِّف. سألتُ عن منزلهما وتوجَّهتُ صوبهما. استقبلاني بالترحاب وبدت عليهما بساطة العيش والحبُّ يرفرف على جنبات البيت كلِّه.
سألتُ عن الصبيّ فقالا لي إنَّه نائم. فقصصتُ على “الأب والأمّ” ما قاله ابنهما وكيف انصرف منزعجًا من الموضوع. فنظر الأب والأمُّ أحدهما إلى الآخر، دمعت عينا الأمّ ولم تستطع الكلام، فتكلَّم الأب:
- أعلم أنَّ ما قاله ابننا يثير الدهشة لا بل الضحك والسخرية. ولكنَّ ما قاله هو الحقيقة.
ظننتني للحظة أنَّني في منزل مجانين، فلا عجب أن يكون الولد متخلِّفًا عقليًّا، فها أمُّه وأبوه هما أيضًا متخلِّفان عقليًّا. حاولت مقاطعة الرجل، فمنعني من الكلام بإشارة من يده، وتابع قائلاً:
- أظنُّك تفكِّر الآن أنَّنا أسرة من المجانين. لكن عندما تعرف الحقيقة تعلم أنَّ ما قاله ابننا هو الحقُّ بالذات. اعلمْ، أيُّها الأستاذ، أنَّ ابننا هذا، كان في عمر السادسة عندما وجدته زوجتي في الغابة وهي تجمع الحطب. كان مربوطًا بحبل على شجرة. بدا خائفًا جدًّا ويبكي وهو يصرخ: “ماما، ماما”. اقتربت زوجتي منه وفكَّت يديه وسألته: “أين أمُّك؟” قال لها: “ربطتني هنا ليلاً وتركتني وهي تردِّد: سوف تأتي الضباع وتريحني منك، واختفت”. احتضنته زوجتي وراحت تقبِّله كابنٍ لها. فأنا وزوجتي متزوِّجان منذ عشر سنوات ولم نُرزق ولدًا. أحضرته إلى البيت ومنذئذٍ نعامله كابن لنا. وها هي سنته الخامسة معنا. صحيح أنَّنا لسنا والديه، ولكنَّه ينادينا: بابا وماما. وما قاله لك هو الحقّ.
- ألم تعرضاه إلى طبيب نفسانيّ؟
- عالجناه لدى طبيب نفسانيّ مدَّة سنة كاملة. كانت الصدمة عليه قويَّة جدًّا. ما قامت به أمُّه جعلته يختلُّ عقليًّا. والحلُّ الوحيد بالنسبة إلى الطبيب هو الاعتناء به وتقديم له العاطفة اللازمة. لم يعد ابننا يرغب في رؤية الطبيب أيضًا لأنَّه يذكِّره بوالديه فامتنعنا عن الذهاب به إليه.
- ألم تحاولا إعادته إلى والديه الحقيقيَّين؟
- منعنا الطبيب أن نأتي على ذكر والديه. فكلَّ مرَّة يؤتى على ذكرهما يتأخَّر ابننا في تخطِّي الحادثة التي تعرَّض لها من قبلهما.
- وهل من أمل في عودة عقله إلى طبيعته؟
- لقد أمضى شوطًا كبيرًا. اهتمامنا وعنايتنا به مع ترك الحرّيَّة له مثل باقي الأطفال، تساعده على استعادة كامل عقله. والجميل في الأمر أنَّ الأطفال يحبُّونه ويرتاحون في اللعب معه فهو غير مؤذٍ، ولا أحد يتنمَّر عليه، بعدما قام المسؤول عنهم بتدريبهم على تقبُّل وضعه ومعاملته مثله مثل الآخرين…
رُبَّ أبوين لم يلداك في الجسد! وكم من أبوين في التربية فاقا أبوين في الجسد!