د. طنوس شلهوب-
الأول نيوز – قد يكونُ من غيرِ المبالغِ فيه القولُ: إنّ الوضعَ اللبنانيّ، وعلى امتدادِ الأعوامِ الثلاثةِ المنصرمةِ يسيرُ من سيّئٍ إلى أسوأ تجاهَ المزيدِ من التأزّم والتعقيد، وخلالَ هذهِ الفترةِ الزمنيّةِ؛ انحدرَ القسمُ الأكبرُ من اللبنانيّين في معيشتهم إلى ما دون الخطوطِ الدنيا للفقر، مع تراجعِ الشعورِ بالاستقرار والأمان، وتزايدت معدّلاتُ الهجرة، ليس فقط في أوساطِ الشبابِ وخريجي الجامعات، بل أيضًا في أوساط أصحاب الاختصاصات العليا، من: مهندسين وأطباء وأساتذة جامعيّين، التي بلغت مستوياتٍ عاليةً تؤشّر إلى توقّعاتٍ غيرِ مشجّعةٍ لما ستؤول إليه أوضاعُ قطاعاتٍ حيويّة، مثل: الصحّة والتعليم والهندسة والإدارة والإعمال.
وبالنسبةِ لأصحابِ وجهاتِ النظرِ الأكثرِ تفاؤلًا، فإنّ لبنان لن يتمكّن من استعادة الوضع الذي كان قائمًا قبيل عام 2019، في المدى المنظور، في حين أنّ المقاربة التحليليّة المستندة إلى الماديّة التاريخيّة تعطي التوقّعات الأكثر تشاؤمًا؛ انطلاقًا من رؤية أنّ الأزمة لا تقتصر على النظام السياسي، إنّما تتعدّاه لتطالَ بقاءَ الكيان في وظيفتِهِ وأدواره.
في عودةٍ إلى لحظاتِ انطلاقِ الحركاتِ الاحتجاجيّة في شهر تشرين من عام 2019، فإنّ البعض يعدّها نقطةً تتحوّل في ديناميّة الصّراع الاجتماعيّ والسياسيّ في لبنان، وهذا التقييمُ هو موضوعيٌّ مقارنةً مع فترةٍ طويلةٍ من الهمود، سادت الواقع الاجتماعي منذ توقيع اتّفاق الطائف وتكليف إدارة الملف اللبناني للتقاطع الإقليميّ السوريّ السعوديّ. صحيحٌ أنّ هذه الفترة شهدت حدثين بارزين: الأوّل هو الحراك الاحتجاجي الواسع تحت شعار إسقاط النظام (عام 2011)، الذي تحفّز في مناخ الانتفاضات الشعبيّة العربيّة التي سُمّيت بالربيع العربيّ، والثاني هو الحراك المرتبط بأزمة النفايات (2015). والسؤال الذي يرد إلى الذهن، لماذا لم ينجح أيٌّ من الحراكين في تحقيق أهدافه؟
والإجابةُ على هذا السؤالِ ضروريّةٌ ليس فقط نشاطًا ذهنيًّا في دراسةِ ظاهرةٍ تاريخيّةٍ اجتماعيّة، إنّما والأكثر أهميّة لصياغة خطّة عملٍ من قبل القوى الثوريّة تأخذ بالاعتبار دروس التجارب السابقة في عناصر قوّتها وأسباب إخفاقاتها. ومن ثَمَّ، فإنّ منهجيّة البحث في مقاربة احتجاجات تشرين وما تلاها من تحرّكاتٍ تحت مظلّة “انتفاضة 17 تشرين” أو “الثورة”، وصولًا للمشاركة في الانتخابات النيابيّة القادمة باسم “روحيّة انتفاضة 17 تشرين”، تفترض هذه المراجعة للتجربتين السابقتين.
بعد اغتيال رفيق الحريري، وحدوث الانقسام العامودي بين فريقي 8 و14 آذار، بدأ ينكشف بالنسبة لشرائحَ اجتماعيّةٍ ذات تطلّعاتٍ مدنيّة، كان سبق أن راهنت على “مشروع” الحريري، الطابع البنيويّ لأزمة النظام السياسي، وهذه الشرائح المدينيّة هي بمعظمها من أصولٍ ريفيّة، انجذبت إلى المناخ العام للانتفاضات الشعبيّة العربيّة، وتوهّمت أنّه يمكن استنساخ آليّات إسقاط رأس النظام (كما حدث في تونس ومصر) وتطبيقها في لبنان لتغيير بِنية النظام السياسي. وفي الواقع، فإنّ القوى الطائفيّة، كانت تمتلك كلَّ عناصرِ القوّة التي تمنع إحداث أيّ خرقٍ في بِنية النظام، وكان من الطبيعي، وفي ظلّ موازين القوى الداخليّة والإقليميّة والدوليّة، أن يفشل الحراك في تحقيق أهدافه.
وإذا كان حراكُ إسقاطِ النظام الطائفيّ، قد جرى تحت شعارٍ سياسيّ، فإنّ حراكِ النفايات قد انطلق من أزمةِ تراكمِ النفايات في الشوارع، ليسدّدَ السهام نحو القوى السياسيّة المسؤولة عن إدارة الشأن العام وانخراطها في تقاسم الصفقات والحصص على حسابِ صحّةِ الناس ونظافة البيئة، وكما الحراك السابق، فإنّ المواجهة في مسألة النفايات لم تحقّق أهدافها. اتّسم هذان الحراكان بغياب الهُويّة الطبقيّة – السياسيّة الواضحة عنهما، وبعدم وجود إطارٍ قياديٍّ موحّد، وترافقًا مع الإعلان عن انخراط مجموعات أن جي أوزيّة فيهما، سعت لتقدّم نفسها (بمواكبةٍ إعلاميّةٍ لافتة)، على أنّها البديل للسلطة السياسيّة. إنّ الشكل الذي انتهى به هذان الاحتجاجان (وفيه تشابهٌ مع مسار الانتفاضات العربيّة) كان ليستحق أن يُستفاد من دروسه، من قبل القوى الثوريّة التي انخرطت في حراك 17 تشرين ليُبنى على الشيء مقتضاه.
إنّ بوادرَ الانهيارِ المالي والاقتصادي كانت بدأت بالظهور، قبل حدوثِ الانهيارِ بسنواتٍ عديدة، وما منع حدوث الانهيار في حينه هو ضخُّ الأموال (الاستدانة) من قبل مراكز الإمبرياليّة، عبرَ مؤتمراتٍ دوليّة، شاركت فيها الصناديقُ الماليّةُ الدوليّة، ثمَّ عمليّة السطو من قبل حاكم المصرف المركزيّ رياض سلامة على أموال المودعين، عبرَ ما اصطلح على تسميته بالهندسات الماليّة لصالح أصحاب المصارف. إنَّ التوقّف عن ضخّ الأموال وتعطيل انعقاد مؤتمر سيدر، جاء بقرارٍ أميركيٍّ نتيجةً لسياسة العقوبات والحصار التي انتهجتها الإدارةُ الأميركيّةُ على من أطلقت عليهم صفة “الإرهابيّين”، أي حزب الله، وعلى من يتورّط بالتعامل معهم وَفْقَ التوصيف الأميركي.
ومن ثَمَّ، فإنّ الأزمة هي نتاجٌ مركّبٌ لعواملَ خارجيّةٍ وداخليّة. والعوامل الداخليّة هي بنيويّة، لها علاقةٌ بنمط الاقتصاد الخدماتي والمالي، وبالنموذج الذي تكرّس في السياسات الحريريّة، وهي تعبّر عن مصالح ذات طبيعة كومبرادوريّة لتحالفٍ محلّيٍّ مرتبطٍ بمراكز الهيمنة الإمبرياليّة، هو بالتوصيف الطبقي السياسي، تحالفٌ هجين، بين كبار أصحاب الرساميل والتجار والمضاربين مع زعماء الميليشيات الذين كرّس اتّفاق الطائف في التطبيق دورهم، في إدارة الدولة كشركاء لأصحاب الرساميل، ومع زعماء المؤسّسات الدينيّة التي شكّلت الغطاء الأيديولوجيّ لأكبر عمليّة نهب، من قبل قوى التحالف السلطوي، مورست بحقّ خزينة الدولة والقطاع العام (أملاك الدولة بما هي أملاك الناس) وطالت مدّخرات اللبنانيّين وكلّ ما راكموه من جنى العمر. أمّا العواملُ الخارجيّة، فإنّها سرّعت من انكشاف هشاشة النموذج الاقتصادي ووضعت كلّ اللبنانيّين أسرى سياسةٍ أميركيّةٍ غربيّةٍ صهيونيّةٍ رجعيّةٍ عربيّة، في ظلّ مزيدٍ من انفضاح الخيارات التطبيعية والتنسيقية للنظام الرسمي العربي مع الكيان الصهيوني، مع تطبيق إجراءات الحصار المالي والترهيب الاقتصادي والدبلوماسي والإعلامي، من أجل دفع السلطة اللبنانيّة للتخلّي عن الحقوق السياديّة في الثروات النفطيّة البحريّة، والقبول بالشروط الصهيونيّة لترسيم الحدود البحريّة، مع تلزيم مشاريع الطاقة المستقبليّة الواعدة للشركات الأميركيّة.
إنّ الحراك الشعبيّ الذي انطلق في 17 تشرين عام 2019، تشكّل من طيفٍ طبقيٍّ وسياسيٍّ متنوّع، نجحت في استغلاله أحزابٌ من قوى النظام، وعملت على توظيف مفاعيله لتحسين دورها في الصراع القائم بين أطراف السلطة، المتحالفين في مسائل السلطة والاقتصاد والمتصارعين حولَ المسألة الوطنيّة، بين محوري الممانعة والمحور الأميركيّ الصهيونيّ الخليجي. وقوى النظام ليست فقط القوى الطائفيّة السلطويّة، إنّما أيضًا اوسع طيف من مجموعات الأن جي أوز الممولة أميركيًّا، التي حظيت وتحظى بدعمٍ ماليٍّ وإعلاميٍّ غيرِ مسبوق، على غرار الثورات الملوّنة التي أدارها الأميركيّون في الكثير من البلدان للإمساك بالسلطة.
إنّ فشل القوى الثوريّة في الاستفادة من المناخ الاحتجاجي الذي تولّد بعد انطلاق حراكات 17 تشرين في العمل لبلورة، تشكل نواةً لحركةٍ شعبيّةٍ تقدميّةٍ ديمقراطيّةٍ يعود لأسبابٍ موضوعيّةٍ وذاتيّة. والأسباب الرئيسة التي عطّلت إحداث الفرز الطبقيّ السياسيّ، داخل الحركة الاحتجاجيّة لا يكمن فقط في قدرة قوى النظام، لما تملكه من إمكانيّات، على ركوب موجة الاحتاجاجات، إنّما أيضًا لغياب الرؤية وخطّة العمل الملموسة، عند القوى الثوريّة، بما يؤهّلها لإحداث فرزٍ داخل الحراك، ناهيك عن أنّ هذه القوى صارت أسيرةَ شعارات أن جي اوزية من نوع “كلن يعني كلن”، هذا الشعار الذي يطمس التمايزات الاجتماعيّة والسياسيّة والطبقيّة في تركيبة قوى النظام، ويعزل الوضع الداخلي عن الصراع الإقليمي والدولي، حيث تصبحُ المهمّةُ هي إسقاطُ “المنظومة” من دون تحديد مواصفات البديل، مما يستولد تقاطعاتٍ وتحالفاتٍ هجينةٍ بين من يسمون أنفسهم قوى “الثورة” أو “الانتفاضة”، وتغيب عن جدول الأعمال القضيّة الوطنيّة، وكأنّ التغيير الداخليّ ممكنٌ بمعزلٍ عن الصراع الإقليميّ والواقع الدوليّ.
إلى ذلك، فإنّ قوى النظام نجحت في تسويق مفاهيمَ تضليليّةٍ وتسطيحيّةٍ في تفسير طبيعة الأزمة، فالمشكلةُ وَفْقَ هذه المفاهيم هي في “منظومة” تبوّأت مواقعَ القرار السياسي، ومارست “الفساد” والتحاصص والزبائنيّة، ويكفي – إذًا – التخلّص من هذه المنظومة لتستقيم الأمور، مع طغيان الخطاب الذي يربط الأزمة برمّتها بوجود مقاومةٍ عسكريّةٍ مسلّحةٍ متمثّلةٍ بحزب الله.
إنّ اللغةَ هي أيديولوجيا، وجوهر الأزمة في لبنان، إنّما هو بالتحديد وجود نظام رأسمالي كومبرادوري، يمارس النهب والاستغلال لمصلحته ولمصلحة مراكز الإمبرياليّة التي تعدّ وجوده ضمانةً لمصالحها ولاستمرار هيمنتها، وهذه الهيمنةُ هي جزءٌ من هيمنتها الإقليميّة والدوليّة، حيث تتكامل هذه الهيمنة بدور الكيان الصهيوني من جهة، وبالنظام الرسميّ العربيّ المطبّع والمنسّق مع الصهاينة من جهةٍ أخرى. ومن ثَمَّ، فإنّ المشكلة تكمن بالضبط بوجود هذا النظام الرأسمالي المرتبط بنيويًّا بالخارج، ومواجهة هذا النظام تتطلّب من القوى الثوريّة العمل على تشكيل تحالفٍ شعبيٍّ تقدميٍّ ديمقراطيّ، يحملُ هموم القضيّة الوطنيّة ومقاومة المشروع الصهيوني، بذات القدر الذي يتصدّى فيه للسياسات الاقتصاديّة والماليّة الإفقاريّة التي حولت كلّ الكادحين والميسورين إلى فقراء. إنّ هذا الفهم للأزمة يستوجب خطّةَ عملٍ وتحالفاتٍ مختلفةٍ كليًّا عن السائد اليوم، حيث تغيب كليًّا المسألة الوطنيّة عن بساط البحث، وتسود مقارنات بين الصواريخ ورغيف الخبز، وبذلك وقوع في فخّ مشروع القوى المعادية، التي تسعى لوضع اللبنانيّين أمام أحد الخيارين: الجوع أو الاستسلام، في حين أنّ الثوريّين الحقيقيّين هم الذين يحسنون الجمع بين المهام.
إنّ أحد الجوانب البنيويّة لأزمة النظام تكمن في عجزه عن استنباط الحلول الذاتيّة للخروج من المأزق، وتاريخيًّا كان “الخارج” دائمًا هو المنقذ، الذي بفضله كان النظام يجدّد قدرته على الحياة، وعلى الصعيد العالمي اليوم، فإنّنا نعيش صراعًا غيرِ مسبوقٍ مرتبطٍ بأزمةِ أوكرانيا، وهو قد يضع مصير البشريّة كلّها على المحكّ في حال الانزلاق نحو صراعٍ نوويّ، كذلك الأمر، فإنّ تناقضات الصراع الإقليميّ لا توحي بالقدرة على إيجاد تقاطعات، قد تساعد على عقد “صفقةٍ” داخليّةٍ في لبنان، وكلّ مشاريع “الحلول” التي يجري الحديث عنها لا تتعدّى حبّةَ مسكّنٍ لمريضٍ يعاني السرطان، ممّا لا يعني فقط أنّ النظامَ قد استنفذ قدراته على الاستمرار، بل هل من حاجةٍ للبنان (كيانًا) أن يبقى قائمًا في مرحلة إعادة تكوين الوظائف والأدوار؟
أمام هكذا نوعٍ من النقاشات، يمكن تخيّل حجم المسؤوليّة الملقاة على القوى الثوريّة لكي تقوم بدورها، ويبدو أنّ بقعة الضوء في هذا الظلام الدامس ما زالت بعيدة.