نهاد ابو غوش –
الأول نيوز – بكل مشاعر الحب والوفاء المقترنة بالألم والقهر، بالدموع والورود وتراتيل المسيحيين وتكبيرات المسلمين وأهازيج الوطنيين وأدعية الجميع، ودّع الفلسطينيون في جميع أماكن تواجدهم وعلى اختلاف تياراتهم وطوائفهم وأعمارهم وقواهم واتجاهاتهم شهيدة الوطن والإنسانية، وفارسة الحق والحقيقة، أيقونة الإعلام العالمي، الشهيدة شيرين أبو عاقلة التي بكاها كل بيت فلسطيني، وكل صاحب ضمير على امتداد العالم.
وفي نفس الوقت، أبت قوات الاحتلال، إلا أن تترك بصمتها الخاصة التي تميزها، فبكل ما لديها من توحّش وانعدام للضمير قمعت الجنازة والتابوت والمشيعين. وأطلقت قنابل الغاز والصوت على المتجمهرين بمن فيهم النساء والأطفال والكهنة والطواقم الطبية في المستشفى وأعضاء السلك الدبلوماسي، وكأنها تريد أن تقول أنها دولة لا تقيم وزنا لأحد ولا تعبأ بأحد، وهي بذلك تؤكد مسؤوليتها المطلقة عن واقعة إعدام الشهيدة شيرين. فمن يقمع جنازة عامدا متعمدا بقرار مسبق وبمشاركة مئات الجنود والضباط والخيالة المسنودين بالطائرات المروحية، لن يتورع، وهو لم يتورع طوال تاريخه، عن اغتيال صحفية وهو يظنّ أنه بذلك يغتال الحقيقة، ويخلي الساحة لروايته التي ينقلها مراسلوه الذين يرافقون الجنود في سياراتهم المصفحة.
قوات الاحتلال سيطرت على مدينة القدس بقوة الحديد والنار والهراوات والخيالة، والحواجز المشددة التي نصبتها على مداخل المدينة والطرقات التي تؤدي إلى المستشفى والكنيسة والمقبرة. لكن الفلسطينيين تفوقوا على كل ذلك، فتحدّوه وتجاوزوه، واكتسحوا المشهد بشجاعتهم وإيمانهم ودفء قلوبهم وعواطفهم، وهم الذين شيعوها قبل ذلك على امتداد الطريق من مخيم جنين إلى القدس عبر نابلس ورام الله، ولولا ضرورات الدفن، فلقد ودّت كل قرية ومدينة ومخيم أن تستضيف جثمان الشهيدة لبعض الوقت لكي تقوم بالواجب تجاه من قامت بواجبها الوطني والمهني والإنساني على أكمل وجه في حياتها ورسالتها المهنية، وفي لحظة استشهادها وما بعدها من خلال النتائج التي ما زالت تتفاعل في كل أنحاء العالم. وليس من قبيل المبالغة أن استشهاد شيرين أعاد القضية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث العالمية، بل إن خبر اغتيالها المتعمد غطى على أخبار روسيا وأوكرانيا، وما عداها من أخبار عالمية مهمة، وهذا منح شعبنا وقياداته فرصة استثنائية للملمة أوضاعنا وترتيب بيتنا وصفوفنا في مواجهة الاحتلال ومخططاته التصفوية.
ليس من الصعب اكتشاف سبب كل هذا الحب لشيرين، فأداؤها المهني المتميز ودخولها من دون استئذان بيوت عشرات الملايين من المواطنين العرب، والأجيال التي تفتح وعيها الوطني والإنساني على تقارير شيرين وزملائها وزميلاتها، إلى جانب ذلك ثمة مأساة إنسانية مروّعة في طريقة إعدامها التي أبرزت مَظلمة الفلسطينيين التاريخية أمام العالم كله، وأشعرت كل فلسطيني وفلسطينية أنه فقد عزيزا، وأن الرصاصة التي أصابت شيرين، أصابت قلبه أيضا، وأظهرت بجلاء كم هي حياة الفلسطينيين مستباحة، وقد اعتاد الاحتلال إزهاقها من دون أن يرفّ جفن لجندي أو قائد. ولعلنا نذكر ما قاله طيار إسرائيلي حين سئل عن شعوره حين يقصف بناية في غزة فيقتل عشرات السكان بمن فيهم الأطفال والنساء، فأجاب بكل صلف أنه ” يشعر باهتزاز بسيط في كابينة الطائرة”، فكل ما هو مطلوب هو كذبة أخرى مفادها أن الجيش سيحقق، وأن الضحية حاول الطعن أو الدهس أو تواجد في منطقة يحظر عليه التواجد فيها.
رواية الإسرائيليين افتضحت وانكشف زيفها وتهافتها، فتبدلت عدة مرات، مع صمود وتماسك الرواية الفلسطينية، الرسمية والشعبية وبخاصة رفض الانجرار إلى فخّ لجنة التحقيق المشتركة بين المجرم والضحية، ورفض تسليم الرصاصة، ثم الشهادات الدامغة لزملاء شيرين بدءا من الكبير وليد العمري وعلي السمودي وشذى حنايشة، وشهادات المسعفين والمنقذين وأبرزهم الشاب شريف العزب، والوقائع المادية لخريطة الموقع وإحداثياته. ومواقف نقابات الصحفيين وروابطهم ومنظمات حقوق الإنسان على امتداد العالم، وتقرير الطب الشرعي، وتصريحات المتطرفين الإسرائيليين بمن فيهم رئيس الحكومة الذي قال أن حكومته تدعم جنودها وتقف من خلفهم، والمتطرف بن غفير الذي قال متبجحا “أن طواقم الجزيرة تعيق عمل الجيش”!
شيرين وحدت الفلسطينيين عاطفيا وشعبيا على الرغم من الانقسام، ما يستدعي تحويل كل مشاعر الحزن والغضب والحب إلى قوة فعلية، إلى برنامج عملي هدفه تحقيق ولو جزء بسيط من العدالة لروح شيرين، من خلال ملاحقة القتلة ومن أرسلهم ومن غطّى على فعلتهم، وتقديم المجرمين للقضاء الدولي العادل، وفي هذا المضمار تلعب نقابة الصحفيين مع الاتحاد الدولي للصحفيين واتحاد الصحفيين العرب دورا رائدا في تقديم الملفات القانونية والفنية، والمطلوب مضاعفة الجهود الرسمية والأهلية، وتنسيقها بهذا الاتجاه غير القابل للتراجع أمام اية ضغوط أو ابتزازات حتى لا يفلت قتلة الصحفيين من العقاب.
أخيرا، ومع خالص التقدير للجامعات والبلديات التي أطلقت اسم شيرين على قاعات ومراكز وشوارع، أتمنى أن نعمل لإقامة مركز مهني متخصص على اسم الشهيدة شيرين ابو عاقلة، يخصص لحماية الصحفيين الفلسطينيين، وتوفير التدريبات والأدوات المطلوبة، والحماية القانونية، والإرشادات المهنية لضمان سلامتهم أثناء قيامهم بواجبهم، لأنه مع هكذا دولة مارقة لن تكون شيرين هي الأخيرة على قائمة ال 45 شهيدا، ونأمل أن تسهم الإدارة المركزية لقناة الجزيرة مع نقابة الصحفيين والمؤسسات الإعلامية والحقوقية المختصة في تأسيس هذا المركز الذي يشكل وجوده دليل وفاء لشيرين ورسالتها النبيلة التي لم تتوقف حتى بعد استشهادها.