السينما والصوابية السياسية والخطاب المعلب

 

مارغو حداد * –

 

الأول نيوز – يطلق مصطلح “الصوابية السياسية – Political Correctness” على الانضباط والرقابة اللغوية بهدف تجنب أدنى إساءة إلى الأقليات والمهمشين والمضطهدين اجتماعيًا وتاريخيًا، تكريسًا لتصورات تيارات سياسية وحقوقية متداخلة عن المجتمع المثالي، للقضاء على التمييز اللفظي والقوالب النمطية السلبية.

أخذ المصطلح في التبلور مع صعود الحركات النسوية والتيار اليساري الداعم لحقوق الأقليات والملونين، حتى وصل إلى منابر الثقافة والفن واسعة الانتشار. حاولت تلك الثقافة أن تُخضِع الفن لمعايير أخلاقية خارجة عليه، تهدف أغلب الوقت لخلق تمثيل ملائم للأقليات، وصناعة أعمال لا يوجد فيها أي نوع من أنواع التحريض على العنف. تنبع تلك المعايير من وجود إيمان تام لدى مناصري الصوابية السياسية أن الفن يحمل مسؤولية حقيقية تجاه الواقع، ومن ثم يجب أن يخضع للمساءلة والمراقبة لاعتبارات غير فنية.

أضحت موجة الصوابية السياسية مسيطرة على صناعة الترفيه في هوليوود، وزحفت أجندتها على مضمون الأعمال الفنية، من تمثيل ملائم للفئات المهمشة، ورقابة على لغة الحوار، إلى حملات الإقصاء لكل من/ما يختلف معها.

الانحياز لحرية التعبير والإبداع هو خيار حقيقي للفنون سواءً كان صانعاً أو متذوقاً وعلية أصبح صناع السينما ملزمين بالعمل داخل أطر محددة من التيمات، وقد كان لهذه التيمات حضورها الحقيقي والصادق مع الثورات الفكرية والسياسية، ولكن فرضها اليوم من قبل السلطة قد أدى إلى تفريغ القضايا من مضمونها، وزاد من تهميش الفئات المهمشة لصالح خطاب مثقف معلب أو منسحق بصورة أقرب للمتاجرة أو التسول ،وإذا نظرنا بصورة أوسع، فسنكتشف أن “فيسبوك” لا ينفرد بهذه المعايير، فالسينما والتلفزيون والمنصات الإعلامية العالمية قد ضمَّنت هذه القواعد ذاتها وتلك هي الصوابية الجديدة ، نعم، بلا شك هناك مفاهيم كان لا بد من تصحيحها، لكن “الصوابية السياسية” أو هذا لتصحيح السياسي صار يتدخل في كل ما نريد مشاهدته . لدرجة أصبحنا نشعر بحسرة عندما نشاهد اسماء وأفلام أهدتها تيارات الصوابية السياسية والنسوية لهوليوود في المقابل طوال العقد الأخير، وعن حصاد كل محاولات التلميع والجوائز غير المستحقة.

ويرى المحللون السياسيون الأميركيون، إن الصوابية السياسية تقتل الرأي الحر، لأنه بدلاً من التعبير عن الرأي الحقيقي بموضوع معين، تأتي الصوابية السياسية لتخفي الموضوع الرئيسي خلف شعارات أخلاقية، فتبقى المشكلة مخبوءة في نفوس من يضطرون إلى الالتزام بأخلاقيات يفرضها الصواب السياسي، فأن نقول للمواطن الأسود بأنه ملّون فهذا لا يعني أن العنصرية قد انتهت، وإذا قلنا للهاربين عبر الحدود بأنهم لاجئون، فهذا لا ينهي مشكلة الدخول غير الشرعي إلى البلاد، أو أن الإشارة إلى المشردين على أنهم “بلا منزل مؤقتاً” لن تخلق فرص عمل أو تقضي على الفقر، والناس الذين يبتلعون تعابيرهم السياسية، لن يتخلوا عن المشاعر التي حفزتهم على القول والتعبير، وبدلاً من ذلك، فإنهم سيبقون تلك المشاعر بالداخل حتى تتفاقم وتصبح أكثر سمية وضرراً.

ستانلي فيش، أحد الشخصيات الرئيسة في حركة الصوابية السياسية، يرى أنها أداة رئيسة في إنشاء الجيد والصحيح، فاللغة تتوسط علاقتنا بالواقع، واللغة والخطاب أساسيان في توزيع القوة في المجتمع، وبرأيه فإن اللغة غير عادلة بطبيعتها تجاه الأقليات والنساء والمثليين مثلاً، ولهذا نحتاج إلى الصوابية السياسية.

لقد أصبح الآن التصحيح السياسي جزءًا من كل النواحي الثقافية تقريبًا، ولكن أن يصبح ذلك جزءًا من السينما فإن ذلك من الممكن أن يقلل من القيمة الفنية لسياق العمل لأنه يضيف لها أجزاء زائدة بلا أي قيمة فنية ، يرى اليساريون والنسويات  أن كلاسيكيات التسعينات مثل مسلسل Friends يجب منع عرضة لأنها تفتقد لوجود مثليين وتعددية عرقية وامرأة تصرخ في وجه الجميع لتؤكد على مساواتها للرجل لذا يجب مهاجمتها . 

العمل الفني أصبح يأخذ منحى آخر وهو أن تقدم نماذج لتلك الفئات المضطهدة “في الماضي” كوسيلة لإعطاء قيمة للعمل الفني أو لجذب أنظار القائمين على المهرجانات أو الجوائز الفنية . أو مجرد وسيلة للترويج للأعمال الفنية

في عام 1946 صدر فيلم «Song of the South»، أحد كلاسيكيات ديزني والحائز على جائزة أوسكار أفضل أغنية أصلية. قصة الفيلم مأخوذة من «حكايات العم ريماس»، وهي قصص للأطفال من الفلكلور الأفروأمريكي تقع في الجنوب الأمريكي خلال مواسم الزراعة. في الفيلم يحكي العم ريماس (ويمثله شخص أسود) قصصه مُحاطًا بحيواناته: أرنب ودب وذئب، عُرضوا برسوم متحركة في الفيلم. وتعد الشركة بإلغاء قرار التحفظ على الفيلم وإتاحته للجمهور كل عام، لكن لا جديد حتى الآن.

ومع تصاعد وتيرة الصوابية السياسية، ما الذي يمنع أفلامًا أخرى ضمن كلاسيكيات السينما ,ومنها فيلم «ذهب مع الريح» في كل سنة، يصنف الفيلم بأنه عنصري، ويتكرر النقد الواقع في دائرة «الصوابية السياسية» التي استحالت حركة استعراضية تنفيسية منشغلة بالتشوّهات الظاهرية أكثر من انشغالها بالمنظومة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الكاملة المبنية على الظلم والاضطهاد المزمن فيلم “ذهب مع الريح” هو ذاكرة عاطفية، ومَعلم لأجيال مختلفة. مكان نلجأ إليه للتعرف إلى الحقيقي والمزيّف في مرارة الماضي وحلاوته بدلاً من نسيانه.

لكن لا زلنا نملك إيدي ميرفي وأرسينيو هول وآخرين من المواهب الحقيقية، كدليل أن العصور التي تم وصمها بالعنصرية، كانت أكثر كفاءة ونزاهة في التقييم وتوزيع الفرص، من عصر ادعاءات المظلومية والمحاصصات الحالية.

 

  • دكتورة في الجامعة الأمريكية

عن الأول نيوز

شاهد أيضاً

ذكرى تأسيس الامم المتحدة

الأول نيوز – شفيق عبيدات تمر ذكرى الثمانين على تأسيس الجمعية العامة للأمم المتحدة هذه …