د. محمد السعيد إدريس –
الأول نيوز – عندما يقف تونى بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، شريك الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش في غزو العراق وتدميره واحتلاله دون قرار بذلك من الأمم المتحدة، ليقول أن العالم “مقبل على تغييرات جيو – سياسية دولية” وأن “عصر الهيمنة الغربية يقترب من نهايته ويسير نحو التعددية القطبية”، فإن هذا يعنى جدية الاستنتاجات التي تتحدث عن “الأفول” باعتباره المصير الحتمي للهيمنة الغربية الذى سوف يستتبعه حتماً أفول لـ “الحضارة الغربية” و”الحداثة الغربية” التي ظل الإعلام الغربي يتحدث عنها باعتبارها “النموذج” الذى يجب أن تسلكه وتتبعه دول العالم النامية إذا أرادت اللحاق بركب التقدم.
بلير قال هذا الكلام في محاضرة ألقاها منذ أيام قليلة فقط، أي في ذروة أزمة أمريكا وحلف شمال الأطلسي مع روسيا في أوكرانيا، أمام مؤسسة “ديتشلي” البريطانية – الأمريكية، وزاد في قوله أن “أكبر التغيرات الجيو – سياسية في هذا القرن ستثيرها الصين وليس روسيا”، موضحاً أن الصين “هي ثاني قوة عظمى في العالم، وإمكاناتها الاقتصادية ودرجة مشاركتها في الاقتصاد العالمي أعلى من روسيا”. واستنتج بلير من هذه المقدمات نتيجتين؛ الأولى يقول فيها “نقترب من نهاية الهيمنة الغربية في السياسة والاقتصاد، وسيصبح العالم، على الأقل، ثنائي القطبية، أو ربما متعدد الأقطاب”. أما النتيجة الثانية فيقول فيها: “لأول مرة في التاريخ الحديث يمكن للشرق أن يكون على قدم المساواة مع الغرب”.
تحدث بلير عن الصعود الصيني لكنه لم يشأ أن يتحدث عن “السقوط” أو على الأقل “الأفول” الأمريكي على مستويات متعددة. أحد شواهد هذا الأفول شهادة ديفيد شينكر مساعد وزير الخارجية الأمريكية الأسبق لشؤون الشرق الأدنى. على جولة الرئيس الأمريكي جو بايدن الشرق أوسطية وعلى الأخص زيارته للمملكة العربية السعودية وحضوره قمة جدة يوم السبت الفائت مع قادة دول مجلس التعاون الخليجي الست و مصر والأردن والعراق. فقد اعتبر شينكر أن “الزيارة لم تحقق أهدافها”، مشيراً إلى أن “بايدن كان يريد أن يرى التزاماً سعودية بزيادة إنتاج النفط إلا أنه لم يحصل على ذلك” وأنه أراد “التزاماً من السعودية والشركاء الخليجيين بالمضي قدماً في ما يتعلق بشكل من (التحالف) الدفاعي في المنطقة (بمشاركة إسرائيل) وأيضاً هذا لم يحصل عليه”، وخلص بنتيجة مؤداها أن “طبيعة رحلة بايدن لم تكن متينة، ولم تحقق الكثير”.
نحن إذن أمام ظاهرتين تحدثان في وقت واحد: صعود صيني – روسي استراتيجي واقتصادي وتكنولوجي وأفول أمريكي قد ينعكس سلبياً على العلاقات الأمريكية – الأوروبية في ظل إدراك آخذ في التنامي يؤكد أن الأمريكيين ورطوا الأوروبيين في صراع ممتد مع روسيا في أوكرانيا، وأن الأوروبيين هم من سيدفعون، بل ويدفعون الآن، أثماناً غالية لهذا التورط في تلك الحرب في ظل أشباح مخاوف حجب روسيا الغاز عن أوروبا مع اقتراب فصل الشتاء دون توفير البديل الكافي، وفى ظل ارتفاعات متصاعدة في أسعار الطاقة عالمياً (النفط والغاز) بسبب قرارات واشنطن التي فرضتها على الأوروبيين بمقاطعة النفط والغاز الروسي في ظل عجزها عن توفير بدائل النفط والغاز الروسيين.
الشهادة الأهم على الأفول الأمريكي جاءت على لسان السيناتور الأمريكي المستقل برنارد سوندرز في محاضرة شديدة الأهمية استعرض فيها ملامح هذا الأفول وتحدث عن حاجة الأميركيين إلى نظام سياسي بديل للنظام الحاكم الآن في واشنطن.
تحدث سوندرز عن مظالم النظام الأمريكي وانسحاق الطبقة العاملة والطبقة الوسطى في ظل “حكم الأقلية” المسيطرة على الثروة والسلطة. وفسر ذلك بقوله “نحن نتجه إلى حكم نظام حكم أوليجاركى (حكم الأقلية) يسيطر عليه عدد قليل ممن يملكون المليارات من الدولارات” وأوضح أن المخيف في الأمر أن “هؤلاء المليارديريين يملكون بالإضافة إلى الثروة الهائلة سلطة سياسية هائلة وأن أكثر من نصف الشعب يعيشون على الكفاف”. واختتم سوندرز شهادته أن “اللامساواة في الدخل بين الأمريكيين الآن ليس لها مثيل في التاريخ الأمريكي، ولا بد من العمل على إنهاء النظام السياسي الفاسد، حيث تشترى الأموال الانتخابات لصالح حكومة تمثل كل الشعب الأمريكي”.
ربما يكون من الضروري السؤال: كيف حدث هذا؟ وأين ذهب النموذج الأمريكي للحداثة؟ هل كان أكذوبة؟ وكيف سينعكس الأفول الاقتصادي – السياسي الأمريكي على الأبعاد الثقافية للحداثة الأمريكية، ومنظومة القيم الثقافية الأمريكية التي جرى “عولمتها” وفرضها على العالم باعتبارها نموذج الحضارة والحداثة.
هذه الأسئلة تعيدنا إلى ظاهرة فرضت نفسها على كثير من دول العالم الثالث في عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي وبلغت ذروتها في عقد التسعينيات مع سقوط الاتحاد السوفيتي وتفكك حلف وارسو، ونعنى بها الترويج لما يمكن تسميته بـ “روشتة التقدم والازدهار الأمريكية”، التي كانت تستهدف فرض التبعية الأمريكية على كل العالم، وهو الترويج الذى وصل إلى درجة مطالبة دول العالم الثالث وفى القلب منها عالمنا العربي بـ “مقايضة هدف الاستقلال بهدف الحداثة”، والقول بأن السير على طريق الحداثة يتطلب التضحية بالاستقلال الوطني والقبول بالتبعية لأمريكا. وامتد الأمر إلى المطالبة بقبول تسوية للصراع العربي- الإسرائيلي وفق الإملاءات والشروط الأمريكية – الإسرائيلية من منظور المقايضة بين الحقوق (الفلسطينية المشروعة) والحداثة، أي الحصول على مصالحة الغرب وإسرائيل من أجل تحقيق التقدم والازدهار.
من أبرز مكونات تلك “الروشتة الأمريكية لتحقيق الحداثة والازدهار” التي بدأت كقائمة أفكار وتحولت فيما بعد إلى مطالب وشروط أمريكية للحاق بركب العولمة أو “قطار العولمة” ما عرف بسياسات “إجماع واشنطن” (Washington Consensus) التي كانت تحظى بدعم وزارة المالية الأمريكية والبنك المركزي الأمريكي، إضافة إلى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وقد اشتملت هذه الروشتة على مجموعة من الإجراءات على الدول المعنية إتباعها لإحداث تغييرات جذرية في البنية الاقتصادية كمقدمة لتغييرات أحدث البنى الاجتماعية ومنظومات القيم والأفكار من أبرزها تقليص القطاع العام وتحرير التجارة الخارجية من أي قيود “حمائية” ورفع القيود المفروضة على الادخار والاستثمار وضمان الحرية الكاملة للسوق، ورفع الوصاية عن البنوك المركزية ومنحها الاستقلالية الكاملة حتى تتمكن من انتهاج سياسة نقدية مستقلة.
هذه الروشتة كانت “فاسدة” أدت إلى إفساد اقتصادات الدول التي اتخذتها كنموذج لتحقيق التقدم والرخاء، لأنها لم تكن تهدف في الواقع تحقيق ذلك التقدم والرخاء في تلك الدول بقدر ما كانت تهدف إلى فرض التبعية وتدمير المجتمعات من الداخل.
والآن في ظل كل شواهد الأفول الأمريكي والصعود الصيني – الروسي كيف سيكون حال سياسات التبعية؟ هل ستبقى الدول صديقة أمريكا حريصة على تبعية لم تعد أمريكا قادرة على حمايتها؟
السؤال مهم الآن ويخص عالمنا العربي قبل غيره هل آن الأوان للتخلص من قيود التبعية والبحث عن نموذج بديل للتقدم والازدهار مع سقوط النموذج الأمريكي ليس فقط في الاقتصاد والسياسة بل الأهم هو منظومة القيم والأفكار والأخلاقيات التي يحملها هذا النموذج.