الخوري أنطوان الدويهيّ –
الأول نيوز – اضطُرَّ أهلي إلى النزوح للعيش في المدينة فانتقلتُ بطبيعة الحال إلى مدرسة أخرى تُعتبر أهمَّ مدرسة في تلك المدينة، حاملاً إليها دفتر علامات مع شهادة ناجح بتفوُّق. بالرغم من ذلك، خضعتُ إلى امتحان دخول. وأتممتُ كلَّ المسابقات بامتياز. وقبل انتهاء الوقت بخمس دقائق، اكتشفت أنَّ هناك مسابقة في الفيزياء على الصفحة الخلفيّة من مسابقة الكيمياء. قرأت المسابقة على السريع وحللتُ السؤال الأخير الذي لم يتطلَّب أكثر من ثلاث دقائق وانتهى الوقت. قدَّمت المسابقات وانتظرتُ نتائج الامتحان.
حصلتُ على نتائج باهرة في جميع الموادّ ما عدا مسابقتي الفيزياء والكيمياء. نلتُ علامة متدنِّية على الاثنتين مع علمي المسبق أنَّني حللتُ مسابقة الكيمياء بأكملها بشكل صحيح. فكان قرار الإدارة إعادة صفّي بعدما أكَّد أستاذ اللغتين أنَّني غششتُ بالامتحان والبرهان على ذلك أنَّني لم أعرف الإجابة على أسئلة مسابقة الفيزياء، ناعتًا مدرستي السابقة بالفاشلة. فسكتُّ ولم أتفوَّه بكلمة واحدة…
بعد انتهاء اختبار الشهر الأوَّل، نجحتُ بتفوُّق كبير، لاسيَّما في مادَّتي الكيمياء والفيزياء. فانبهر الأستاذ من النتيجة وتذكَّر مسابقة الدخول ولم يستطع السكوت عن الموضوع. فاستدعتني الإدارة بحضور الأستاذ. قدَّم اعتذاره لي وطلب إلى الإدارة ترفيعي إلى الصفّ الأعلى لأنَّه أخطأ في حقّي وكان سبب بقائي في صفّي. وسألني: “لماذا لم تطالب بحقِّك مع علمك بعدم إنصافي لك؟” فأجبته: “تعلَّمتُ الصمتَ من أبي، تاركًا الوقت والاجتهاد دربًا للإنصاف. فأنا لا أعرفك، وقد تؤدّي المطالبة بحقّي إلى تنافر بيننا، وقد أنجح في الحصول على الترفيع وقد لا أرفَّع، ولكن أكون فقدتُ علاقة مميَّزة مع أستاذ لم يتعرف إليَّ بعد. لذلك فضَّلتُ الخضوع لقرار الإدارة مهما كان مجحفًا بحقّي.” فأجابني: “وأنا تعلَّمتُ في حياتي أن أطالب بحقّي حتَّى أحصل عليه. أمّا اليوم، وأنت تلميذ وأنا أستاذ، فأنتَ تعلِّمني درسًا مناقضًا”. فابتسمتُ وأطرقتُ رأسي ولم أُجب. فاستطرد: “في الذمِّ تسكت وفي المديح تصمت. أوقعتني في حيرة من أمرك. فأنت في ربيع عمرك ولمَّا تبلغ السابعة عشرة، ولكنَّ تصرُّفاتك تدلُّ على أنَّك بلغتَ حكمة الشيوخ. ليس غريبًا عنك ذلك القول: إذا كان الكلام من فضَّة، فالسكوت من ذهب. لقد طبَّقت كلام أحد الفلاسفة: ما ندمتُ على سكوتي مرَّة، لكنَّني ندمتُ على الكلام مرارًا.” وقام إليَّ مصافحًا يدي بحرارة. وبصمتي ربحتُ صداقة أستاذ بدلاً من عداوته، ونلتُ ترقية إلى الصفِّ الأعلى.
لطالما ردَّد أبي هذه الكلمات أمامي، فحفرتها في قلبي وعقلي: يا بُنيّ، لم يُعتبر الصمت يومًا خنوعًا أو ضعفًا أو استسلامًا، فهو وقت الغضب سيطرة على الذات، وقت الامتحان ثقة بالذات لا محدودة،وقت التفوُّق والنجاح تواضع، وقت تلقّي الملاحظة أدب، وقت السخرية ترفُّع، وقت العمل تخطيط وتفكير وإبداع، وقت الإساءة مسامحة، وقت الحزن صبر، وقت الشدَّة قوَّة، وقت المرض مقاومة؛ وأخيرًا، الصمتُ أمام إرادة الله صلاة.