الخوري أنطوان الدويهيّ –
الأول نيوز – منذ الصغر، تربَّيتُ على محبَّة الإنسان، كلِّ إنسان، واحترامه، دون تمييز في العرق أو اللون أو الدين. وكنتُ أقضي العطلة الصيفيَّة في قرية جدَّتي حيث نشأت صداقة بيني وبين بعض الأتراب هناك. وبينما كنتُ أسرح وأمرح في تلك القرية يومًا، مع هؤلاء الأصدقاء، اقتربنا من منزل كبير، شبه مهجور، وإذا بأحد الرفاق يحذِّرنا من التجوُّل بالقرب من ذلك البيت، مدَّعيًا أنَّ أهل البيت هم من الجنّ، ولا أحد يعاشرهم من أبناء القرية. منذ ذلك اليوم، نما شعور من الحقد في قلبي تجاه ذلك البيت وتلك الأسرة دون سابق معرفة بها.
وبعد سنة على تلك الحادثة، تعرَّفتُ إلى فتاة جميلة تصغرني بسنة. أخبرتني أنَّها من بنات القرية ودعتني لزيارتها لتريني مكان إقامتها. وفي الموعد المحدَّد، التقينا عند ساحة الضيعة وتوجَّهنا معًا صوب ذلك البيت الكبير الذي كنتُ أخشاه وأكره أصحابه. تردَّدتُ لحظة، عندما اكتشفتُ أنَّها ابنة ذلك البيت، ولكنَّ التربية الصالحة تغلَّبت على حقدي غير المبرَّر، ودخلتُ معها إلى منزلها، فاستقبلني أهلها بكلِّ ترحاب ودعوني إلى الغداء معهم.
هو قصر قديم، رائع الجمال، مؤلَّف من ثلاثة طوابق، كلُّ شيء فيه قديم ومرتَّب. وأخبرتني الفتاة أنَّه جرى فيه تمثيل فيلم مرعب أضحى مشهورًا عن بيت يسكنه الجنّ. ومنذ ذلك الحين، لم يجرؤ أحد من أبناء القرية على التردُّد إلى أهل البيت أو يتكلَّم معهم. وفي إحدى المرَّات تجرَّأ أحد الرفاق أن يأتي معي لزيارة أهل ذلك البيت، فتوطَّدت العلاقة بينه وبين الفتاة ولم تمضِ سنوات عشر حتَّى اقترن بها…
في الحياة، نتربَّى على أمور تدخل في “لاوعينا”، في تفكيرنا الباطنيّ. وأبرز تلك الأمور التربية منذ الصغر على حقد مَن لا نعرفهم. والمثل القائل: “الإنسان عدوّ ما يجهل”، هو خير دليل. فينمو ذلك الشعور ويقوى أحيانًا، حتَّى يطغى على التربية الصالحة التي تنشَّأنا على مبادئها. لذلك، نجد الصراعات تزداد يومًا بعد يوم، بين الأفراد، بين الأسر، بين الأديان، بين الأوطان…
وما يؤجِّج تلك الصراعات في معظم الأحيان هو الإعلام المنحرف الذي ينحاز إلى فريق دون الآخر. وما دام الإعلام يسعى – من خلال الصراعات – إلى “سبق صحفيّ”، فتلك الصراعات لا تعرف لها نهاية…
أساس المجتمع المتقدِّم هو التربية على المبادئ والأخلاق، على احترام الآخر وتقديره، على احترام حقوق الإنسان وواجباته والعمل بها، على الابتعاد عن الأمور الضيِّقة والتافهة والركون إلى التقدُّم العلميّ والمهنيّ والحياتيّ.
ما يسيطر على شعوب العالم الثالث هو الجهل وقلَّة الثقافة والمعرفة، فتنشأ الصراعات فيها بسهولة وينجرُّ الإنسان نحو تيَّارات ومذاهب وأحزاب تفرِّق أكثر ممَّا تجمع. والمثل القائل: “فرِّق تسدْ”، يطبَّق على تلك الشعوب، فتبقى خاضعة لدول العالم الأوَّل والثاني. أما حانَ لنا أن نستيقظ من كبوتنا، وندرك أنَّنا جهلة، ونتعالى على انقساماتنا، لنكوِّن شعبًا راقيًا متقدِّمًا؟