أسامة الرنتيسي –
الأول نيوز – شاهدت فيديوهات وتقارير كثيرة في اليومين الماضيين لطوابير من البشر في وداع جثمان أسطورة العالم في كرة القدم بيليه المسجى في ملعب رياضي.
نادرا؛ جدا؛ من كان يمر من أمام الجثمان ولا يحمل تلفونه في يده ويصور اللحظة.
حتى رئيس الفيفا السويسري جياني إنفانتينو أثار حالة من الجدل والسخرية والهجوم عليه بعد التقاطه صورة “سيلفي” بالقرب من جثمان بيليه. (الصورة أسفل المقال)
فعلا؛ العالم جُن، وأصبح تحت سيطرة التكنولوجيا التي دمرت الأخلاق، ونزعت من الإنسان الصدق مع ذاته.
مفزع جدا عندما ترى شخصا يتصور سيلفي بالقرب من سرير والده المتوفى، أو ابنه بعد عملية جراحية صعبة، أو يقبل يد والدته وهي في النزع الأخير.
وصل الأمر أن يتم نقل الدفن عبر خاصية البث المباشر في الفيس بوك، وتصل الكاميرا إلى داخل اللحد وهو مسجى وتُهال عليه الأتربة.
قبل فترة أقدم شاب سوري ثلاثيني على الانتحار من فوق جسر عبدون، يومها أقسم بالله أن الفيديو وصل تلفوني أكثر من 30 مرة.
ما فجعني فوق فاجعة الانتحار، نوعية الأعصاب ومستوى الأخلاق عند من صوّر الفيديو من الجهة المقابلة للجسر.
كأننا إزاء مشهد تمثيلي حقيقي، شاب يقترب بكل جرأة من “جسر الانتحار” تقف خلفه سيارة دفاع مدني في محاولة لمنعه من الانتحار، لم ينتظر الشاب وصول أحد إليه، تدلى من أعلى الجسر كأنه يريد السقوط لا الانتحار، لأنه لم يقفز كما يفعل المنتحرون بل تدلى قليلا وترك لنفسه العنان، فسقط من على الجسر وانفجر على الأرض كما تنفجر بِطِّيخَة.
هذا المشهد لو كان في فيلم سينمي لاستحق عليه المخرج جائزة، أما أن يجد أحد الهواة في الجهة المقابلة للجسر فرصته بتصويب هاتفه ومتابعة الشاب وهو يقرر القفز والانتحار، فهذا مشهد لا يمكن اختزاله في شخص هاوٍ بل محترف يتعامل مع الموت بكل هدوء وسكينة.
مشهد تصوير حالة الانتحار لا تختلف كثيرا في فجاعتها عن مشهد العشرات عندما يحملون هواتفهم ويصورون جثث ضحايا حوادث الطرق، بعضهم يستخدم الزووم حتى يصل لأدق التفاصيل في تصوير حالة الضحايا والمصابين.
هل فعلا ضريبة التكنولوجيا، وهوس اللايكات، ونشر الفيديوهات، والتسابق في البث والإرسال وغزو الجروبات أكثر تأثيرا في ثقافتنا الجديدة، تعادل مشاعر الإحساس مع الضحايا والمصابين، وكأننا إزاء مشاهد عادية لا يتأثر المرء بها أبدا.
هل فقدنا حاسة التعاطف والتضامن مع الضحايا، ماذا كسب مصور فيديو الانتحار من بثه في الفضاء الإلكتروني، وما هو المكسب الذي يحصل عليه كل من يقوم بإعادة بث الفيديو على مجموعاته والجروبات المشارك فيها.
لم يعلم أحد ما هي الأسباب التي تدفع شابا ثلاثينيا إلى اتخاذ قرار ترك الحياة ومغادرتها بكل هذا الصخب، الانتحار عن سبق إصرار، لا نعلم حجم القهر الساكن في قلب ونفس هذا الشاب السوري، ولا ظروف حياته وأهله في الأردن.
الدايم الله….