″الجريدة المصفّدة″ التي تقلق راحة المسؤولين الفرنسيين..

برسم قانون الجرائم الالكترونية الذي يُحصّن المسؤولين من الإنتقاد…

 

د. سليمان صويص –

 

الأول نيوز – في فرنسا، هناك صحيفة اسبوعية ساخرة وناقدة حتى العظم اسمها ”لو كنار أنشينيه”Le Canard Enchainé أي باللغة العربية ” الجريدة المصفّدة″ . تأسست عام 1915، أي في خضّم الحرب العالمية الأولى؛ ومع ذلك، فهي لا تزال تصدر حتى اليوم صباح كل أربعاء.

لا تنشر إعلانات وتعتمد على تمويل نفسها بنفسها حتى تحافظ على استقلاليتها. رئيس تحريرها وصحفيوها يمتازون بالإستقامة وليس لهم أي انتماء حزبي، وهمّهم الأساسي القيام بالصحافة الإستقصائية والبحث عن الحقيقة من خلال ممارسة النقد على جميع المستويات وبحرية مطلقة. والشعار الذي يتصدرها على الدوام : ”لا تهترئ حرية الصحافة إلاّ عندما لا نستخدمها”.

تنشر المقالات والكاريكاتير الجرئ والمبدع والذكي، لكنها تمتاز على وجه الخصوص ـ وتاريخها يشهد على ذلك ـ بالكشف عن فضائح وقضايا فساد هزّت الحياة السياسية الفرنسية، وقادت في بعض الاحيان إلى استقالات وزراء ومسؤولين من مناصبهم أو محاكمتهم (كما جرى مع وزير خارجية أسبق في عهد الرئيس ميتران). في بعض الحالات كانت ترفع قضايا ضدها امام القضاء، لكنها ـ بإستثناء حالة او حالتين فقط ـ كانت تخرج منتصرة في المعارك القضائية. ذلك ان للصحيفة مصادرها الوثيقة من داخل أجهزة الدولة الفرنسية التي تزودها ، كما يبدو، بمعلومات موثوقة.

في سجل ″لو كانار أنشينيه″ العديد من قضايا الفساد التي كشفت عنها  وأحرجت مسؤولين وأدّت إلى خروجهم من مناصبهم أو تحويلهم إلى المحاكمة؛ هذه نماذج من بعض القضايا ، بعضها ربما كان مشهوراً في فترة من الفترات، لكن النسيان طواها:

• عام 1969 نشرت الصحيفة بان هناك أجهزة تجسس وضعت في قصر الإليزيه كانت تنقل اسرار المحادثات التي تجري في القصر الجمهوري، واتهمت الصحيفة وزير الداخلية بانه وراء ذلك. تأكدت الواقعة ورفع الوزير قضية ضد الصحيفة ؛ لكن المحكمة ردتها وتحمل الوزير تكاليفها بإعتبار ان الصحيفة تعرضت لشخصية عامة ليست فوق النقد او المحاسبة.

• عام 1979 كشفت الصحيفة عن ان رئيس جمهورية افريقيا الوسطى جان بوكاسا اهدى الرئيس الفرنسي الأسبق جيسكار ديستان قطعاً ثمينة من الالماس له ولعائلته. وشكلت تلك حينها فضيحة من الطراز الرفيع.

• في عام 1981 نشرت الصحيفة وثائق تثبت بان موريس بابون ، وزير الخزانة آنذاك، كان مسؤولا مباشرة عن القمع الدموي الذي استهدف مظاهرة جرت في باريس في تشرين الأول (أكتوبر) 1961 ضد منظمة الجيش السري المناهضة للجنرال ديغول؛ وكان بابون حينها مديراً لشرطة باريس.

• وفي إحدى السنوات، حلف وزير فرنسي للصحة بأن ليس لديه حسابات بنكية في سويسرا؛ وفي يوم الأربعاء التالي نشرت الصحيفة الأسبوعية وثائق تثبت عكس ما صرّح به الوزير… وكانت فضيحة اخرى !

• عام 2017 كشفت الصحيفة أن فرانسوا فيلون رئيس الوزراء، وكان آنذاك يريد الترشح للإنتخابات الرئاسية، قد منح زوجته بينيلوب وظيفة وهمية بمسمى ”ملحقة برلمانية” تقاضت من ورائها حوالي نصف مليون يورو. وقد أدى ذلك لسحب فيلون ترشيحه للإنتخابات الرئاسية.

• وهناك قصة تمويل الرئيس الليبي الراحل القذافي للحملة الإنتخابية للرئيس الفرنسي الأسبق ساركوزي … هذه أيضاً من ″اكتشافات″ لو كانار انشينيه. وقد وصلت مبيعات الصحيفة في بعض الاحيان ـ بسبب نشرها لهكذا معلومات إلى مليون نسخة  الامر الذي ساعدها على الاستقلال المالي الذاتي.

بالإمكان الإستطراد في سرد ”الفتوحات” التي قامت بها هذه الصحيفة الفريدة من نوعها في فرنسا وربما في العالم لكن العبرة والدرس يقعان في مكان آخر. والمخاطب بهذه العبرة مجلس الامة الأردني الذي وافق على قانون الجرائم الالكترونية الذي يجرّم تلك الجرائم، لكنه في الوقت نفسه يضع قيوداً كثيرة وشديدة أمام توجيه الإنتقادات للمسؤولين.

صحيفة ″لو كانار انشينيه″ حاجة ماسة للديمقراطية الفرنسية ، بالرغم من الإنتقادات العديدة التي توجّه لتلك الديمقراطية. هذه الصحيفة تقلق راحة السياسيين الفرنسيين من جميع الإتجاهات من يمين ويسار وأقصى يمين وأقصى يسار .. والعديد من المسؤولين الفرنسيين يكرهون هذه الصحيفة، لكنهم يحترمونها ويخشونها ويضعون أياديهم على قلوبهم صباح كل أربعاء ، خوفاً من كشف أسرار لهم. بل إن بعض الفرنسيين من قادة الراي العام يعتقدون بان غياب أو معاقبة أو اختفاء أو توقف “لو كانار انشينيه” لأي سبب من الأسباب هو “كارثة” بالنسبة للحياة السياسية وللديمقراطية والنزاهة في البلاد !

نتحدث عن فرنسا؛ لكن العقل والذهن والقلب يفكر بما يجري في الأردن. وضع القيود والعقوبات المغلّظة التي تخلط ربما عمداً بين معاقبة جريمة ألكترونية فعلية، وتعبير عن وجهة نظر معارضة أو ناقدة لمسؤول او مؤسسة رسمية، من خلال الإبقاء ـ بل والإصرار على ـ التعابير والألفاظ الفضفاضة ، او غير المحددة … هو ببساطة رخصة إضافية للإستمرار في الفساد الذي مل الشعب وقواه المنظمة من المطالبة بمحاربته فعلياً وبصورة شاملة ، وليس انتقائية .

عن الأول نيوز

شاهد أيضاً

المغفور له الملك الحسين علاقته بالصحافة

الأول نيوز – شفيق عبيدات بمناسبة ذكرى ميلاد المغفور له جلالة الملك الحسين بن طلال …