زياد خداش – الأول نيوز –
في رام الله، كنا في بيت صديق لا أتذكر من هو، غارقين في النوم، سهرنا حتى الثالثة صباحا، وهذا حدث نادر وجديد في حياتنا، الساعة لم تتجاوز الخامسة صباحا، الزمن آب من العام 1996 كنا مجموعة من الكتّاب الشبان الذين أمضوا حياتهم تحت الاحتلال، والاحتلال بالنسبة للشبان يعني النوم مبكرا، وإدمان المسلسلات المصرية، والكتابة وفق النمط المتفق عليه، والشوق إلى كتب وروايات نسمع عنها ولا نراها بين أيدينا، وتأجيل الحياة الشخصية التي أصلا لم تكن متاحة.
فجأة، استيقظنا على صرخة هزت أركان البيت، كان مازن يدير ظهره لنا وهو يقف مرتفقا نافذة تطل على وادٍ عميق وطويل: (تعالوا، تعالوا شوفوا، ما شفت مدينة في العالم بطلع فيها ضباب صيفي في آب، شوفوا). رفعنا رؤوسنا ناحيته، ونحن ممددون نغالب نعاسا رهيبا، لم نستجب لمازن وعدنا إلى النوم، لكن سطلا من الماء رشه الوحش طويل القامة على وجوهنا وهو يصيح: (بدكم اظلوا نايمين يا هبايل ولكم شوفوا مدينتكم ما أروعها)، قفزنا مصروعين، جرنا واحدا واحدا، وهو يهزنا من أكتافنا النائمة مشيرا إلى الضباب تحتنا: هذا المنظر ما «شفته» في كل دول أوروبا، رام الله ساحرة ساحرة. عرفنا مازن على ضباب رام الله الصيفي، وعلى نمط كتابة جديد، أساسه إطلاق سراح (وقاحة وطيش) المخيلة، وتحرير لغتنا من سجن المفردات المتكررة، والكتابة عن حياتنا وتجاربنا، وأن صداقة الليل والنساء لا تتعارض مع كوننا نعشق فلسطين وربما نموت من أجلها وأن الكتابة دون سفر مثل شواء دون لحم، وعلى أشياء أخرى، اكتسبناها من خلال سلوكه دون أن ندري: أن نعتد بأنفسنا ولا نخاف من قول ما نحس به، وأن نحارب من أجل حقوقنا، كل شيء غريب وصادم كان قريبا من مازن، سيارته العجيبة التي لا أظن أن لها شبيهة في البلاد، (فولزفاجن حمراء من نوع صرصور)، غالبا بغبار وبصوت أجش، ومقاعد مخلخلة وأغراض غير مفهومة تحت الأقدام، كان يأتي إلى القهوة بملابس مجنونة وشعر فوضوي، يغرق فورا في لعب الورق والحوارات والتدخين، في المقهى كان يحلل الحياة والسياسة ببراعة، كان معتدا برأيه إلى درجة قد تبدو متطرفة، لكنه كان يسمع ما يقوله الناس حتى آخر كلمة، كان صادقا في كل كلمة يقولها، أظن أن اعتداده الشديد برأيه قادم من هذا الصدق، كان مازن يروي قصصه أمامي وأمام الآخرين، وكنت أسمع القصص عشرات المرات، لا تنقص حرفا ولا تزيد، وبنفس ملامح وجهه التي تتطلبها القصة حين الغضب وحين الفرح أو الحيرة. كره مازن البطالة، بطالة الروح أولا ثم بطالة العمل، كان صاحب مهن عديدة، زارع قمح وخضراوات، مربي دجاج وبقر، صانع عسل وجبن ولبنة وحليب وخبز، لم يؤمن بالكهرباء القادمة من الشركة، ولأنه كان محبا للشمس، وللحياة الطبيعية أخذ كهرباءه منها، ولأنه كان بريئا وحقيقيا ويشبه ذاته، ومثل الأطفال كان يلاحقنا بطلب متكرر: هل قرأت روايتي؟ وحين كنت متكاسلا أؤجل قراءتها لم يكن يغضب أبدا، ولم يؤثر ذلك على صداقتنا، كان ذا عقل كبير، مشغولا بقضايا كبرى، ولم يكن صاحب تفاصيل وحساسية مريضة مثل أغلب المثقفين الذين يمكن أن يقاطعوك لمجرد أنك نسيت أن تحييهم في الشارع.
سأقول شيئا أقوله لأول مرة، حصتي في «دفاتر الأيام» لم تكن لتكون لولا مازن، كنت أجلس معه في مقهى رام الله شتاء 2006، قلت له، إن لديّ حلما بالكتابة في جريدة «الأيام» وتحديدا في «دفاتر الأيام»، ببساطة شديدة أعطاني حلا مخيفا بالنسبة لي: يلا اكتب رسالة نصية من جوالك للأستاذ أكرم هنية، شو أكتب فيها يا مازن،؟ أكتب بالحرف الواحد: (مرحبا أستاذ أكرم، لديّ حلم بأن أكتب في زاوية دفاتر الأيام) ارتعبت من الفكرة فمن أنا حتى يوافق الأستاذ أكرم يا مازن؟ يا زلمة أنت زياد خداش، اكتبله يلا أمامي الآن، (أنا فلان وأحلم بالكتابة في جريدتك).
أخرجت جوالي وكتبت الرسالة، في الليل، جاءني رد إيجابي، ومنذ تلك الأيام وأنا هنا، وأكتب الآن راثيا الشجاع طويل القامة وصاحب روح الكلمات التي أحضرتني إلى هنا.
الضباب الضباب يا مازن سعادة.