الاول نيوز – د.محمد موسى المرقطن
بعد أعوام على الغياب الجسدي للرمز الحضاري الكبير الشاعر محمود درويش, الذي أسهم طيلة حياته في إيجاد نمط جديد من أنماط القصيدة العربية التي تنوعت أغراضها الفنية رغم التصاقه بالمقاومة والفن الملتزم, والذي أصبح فيه درويش صاحب مدرسة مستقلة لاقت الكثير من الثناء والنقد اللذَين لم يأبه بهما “صاحب الجدارية” التي تعد بحق ملحمة شعرية عصرية كان يتنبأ فيها حالة الموت التي نالت منه أخيرًا، تقف النخب الثقافية اليوم حائرة في قراءته وتناوله التناول الذي يليق به وسط هذه الحالة الاستثنائية لقامة باسقة من قامات الشعر العربي.
“درويش” أبدع في تصوير محبوبته التي كان يذكرها صراحة في حين ويرمز لها في أحايين كثيرة, فمحبوبته -فلسطين- ظلت على الدوام قلقه المستمر وجرحه الذي ينزف باستمرار من خلال “سيل” الجمل الشعرية التي كان يبدع في نسجها وحياكة أجمل القصائد منها حتى أمسى أعظم شعراء العربية المعاصرين وقامة شعرية عالية جعلت الكثيرين يعمدون إلى تقليدها ومحاكاتها.
كثيرون هم الشباب العرب الذين تغنوا بقصائده وحفظوها عن ظهر قلب لما كانت تحتويه من مشاعر وأحاسيس قومية تستحوذ على كل إنسان حر يؤمن بقدسية العلاقة ما بين الأرض والإنسان لا سيما في فترة انتشار حركات التحرر العربي وتنوع الحركات الثورية وانخراط الشباب في الأحزاب ذات المرجعية الاشتراكية الشرقية المعادية لليبرالية الغربية البغيضة وقت ذاك؛ فقد نفذ إلى عقول الكثيرين بفكره وشعره ونثره وآرائه الإشكالية التي حيرت الكثيرين ممن هم حوله.
بعد أعوام على غياب «صاحب ريتا» تفتقد القضية الفلسطينية، اليوم، أحد أبرز أعمدتها ومبدعيها الذين ظلوا على الدوام يجددون أنفسهم وينوعون أدواتهم النضالية من أجل فضح الآخر المعتدي أمام العالم بأسلوب حضاري راقٍ، ومن خلال العقلانية الممزوجة بالشاعرية المتألقة, والدعوة المتكررة إلى الخروج من القُطرية الضيقة إلى فضاءات أرحب، والتواصل مع المجال العربي والإسلامي والإنساني؛ لأنه كان يؤمن على الدوام بأن القضية الفلسطينية ليست قُطرية أو عربية فقط، بل إنسانية على جميع القوى العالمية والمجتمع الدولي أن يتدخل بشكل جاد من أجل حلها وإيجاد الحلول التوافقية التي لاتمس الثوابت الوطنية على أقل تقدير، والتي تحقن الدماء وتوقف هذه الهجمة الشرسة على شعب أعزل, ففلسطين -كما يرى درويش- جزء أساس من نسيج الوطن العربي الذي هو جزء مهم من النسيج العالمي مع إصراره الدائم على تجدير الهوية الفلسطينية ودورها الفاعل في بناء الحضارة الإنسانية في مختلف المجالات.
محمود درويش حقيقة واقعية لا أسطورة، و”أسطورة حقيقية” خالدة ومتجذرة في الذات العربية المُقاوِمة، وهو من سدنة اللغة العظماء الذين طوعوا اللغة وروضوها فانصاعت لهم… درويش الماضي، الحاضر، المستقبل، وهو الفكر/ الحضارة/ الثورة/ الحرية/ الحيرة/ الحسرة/ الإبداع/ التألق/ الوجود/ البداية/ النهاية/ هو/ هم/ هي/ أنا/ نحن/ الواقع/ الخيال/ العود/ الكمنجة/ السنديانة/ الزيتونة/ التينة/ الدالية/ تفاحة الجاذبية/ بيارات البرتقال/ الأغنية الصافية/ النشيد الحر/ النبيذ المعتق/ القهوة النقية/ الورد/ اللازورد/ الروح/ الذاكرة/ اللغة/ المفردات/ خيط ثوب إمرأة تدلى على صدر أمتنا/ نقش محفور في ذاكرة الوجود/ الغائب الحاضر على الدوام/ وجع المنافي والسجون/ جرح الغزالة النازف على الطرقات/ الخلود الاستثنائي.
“أحد عشر كوكباً” تراك أيّها الهائم في حضرة الغياب… ولا غياب.