الأول نيوز – هاني المصري ( المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الإستراتيجية – مسارات)
صادف أمس الذكرى الأولى لعملية طوفان الأقصى. هذا الحدث التاريخي المؤسس، الذي ما بعده سيختلف عما قبله، والسؤال الذي يطرح نفسه مجددًا: هل حان وقت التقييم واستخلاص الدروس والعبر؟
الجواب: إن التقييم حاجة دائمة لأي حدث لتحسين الأداء أثناء الحرب، وضمان الانتصار أو عدم الانهزام على الأقل، فكيف لحدث بحجم وتأثير السابع من أكتوبر.
بعد الطوفان وشن حرب الإبادة ضد شعبنا في قطاع غزة، كانت الأولوية لإخماد الحريق داخل البيت وليس الانشغال بمن أشعله ولومه على القيام عليه، فهذا أمر له وقته، والتقييم أصبح ضروريًا الآن أكثر بعد أن طالت الحرب أكثر مما ينبغي، وبعد أن دخلت المرحلة الثالثة وفُتحت فيها الجبهة الشمالية بصورة أكبر ومرشحة للتحول إلى حرب إقليمية مفتوحة، وذلك لضمان الخروج منها بأفضل النتائج.
سيسجل التاريخ أنّ طوفان الأقصى إنجاز عسكري نوعي بغض النظر عن النتائج النهائية التي ممكن ألا تكون سياسيًا بحجم الإنجاز العسكري، وذلك بسبب الاختلال الفادح في ميزان القوى والشراكة الأميركية الكاملة في الحرب إلى جانب دولة الاحتلال، مع ذلك فالحرب لم تضع أوزارها ولم تحسم نهائيًا حتى الآن، ومرشحة للاستمرار أشهرًا عدة على الأقل.
لقد كان ما حدث إخفاقًا إستراتيجيًا لدولة الاحتلال التي ظهرت في حالة من الذهول والمفاجأة، وشلت لعدة ساعات، وسقطت قوة الردع، وظهر بأن إسرائيل قابلة للهزيمة وأنها بحاجة إلى دعم الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية حتى تستطيع الدفاع عن نفسها. كما أنها واجهت هجرة عكسية وتكبدت خسائر اقتصادية ومعنوية وعسكرية وبشرية – وفق بعض المصادر الإسرائيلية – أضعاف المعلن عنها.
كما قدمت عملية طوفان الأقصى دليلًا على قدرة المقاومة الفلسطينية، وتحديدًا حركة حماس، على الخداع الإستراتيجي والتخطيط الإستراتيجي، وتنفيذه وتحييد التقدم التكنولوجي واختراق نظام المراقبة والجدران والتجهيزات المتطورة جدًا.
في المقابل، دفع طوفان الأقصى بالصراع إلى الحسم في وقت غير مناسب للفلسطينيين، فهم ليسوا قادرين على الحسم؛ ما يشكل مخاطرة كبيرة بأن يتمكن الاحتلال من الحسم، وليس المقصود بالحسم انتصار بالضربة القاضية بل بالنقاط، فلا يمكن هزيمة حركة شعبية هزيمة ساحقة.
كما شاب العملية تقديرات خاطئة وأخطاء كبيرة بغض النظر ممن (من عناصر القسام أم من غيرهم من الكتائب أو أفراد وعائلات مسلحة دخلت على الخط، حيث كان يجب الاستعداد لكل الاحتمالات)، مثل استهداف بعض المدنيين والأجانب التايلنديين، وأكبر ثغرة في الإنجاز الكبير الذي مثله طوفان الأقصى أن الأهداف تركزت على إطلاق سراح الأسرى وحماية الأقصى ورفع الحصار والأحلام الكبرى، ولم تضع هدف إنهاء الاحتلال والاستقلال بوصفه هدفًا أساسيًا ناظمًا يتناسب مع حجم المعركة والبطولات والتضحيات التي قدمت فيها.
وحتى يستقيم التقييم، لا بد من الإشارة إلى أن حجم الانهيار الإسرائيلي والإنجاز الفلسطيني أكبر بكثير ما خطط له، وبذلك كان حجم العدوان والرد الإسرائيلي أكبر بكثير من المتوقع وما تم الاستعداد لمواجهته، ومع ذلك كان بالإمكان وضع كل السيناريوهات والاستعداد لكل الاحتمالات عند التخطيط للقيام بعمل بمثل هذا الحجم .
الكارثة والبطولة
على الرغم من الاستعدادات الكبيرة والصمود العظيم الأسطوري والمستمر للمقاومة البطولية للعام الثاني الذي لا يقل أهمية عن السابع من أكتوبر، ولكن يجب أن نرى الواقع كما هو حتى نعمل على تغييره، فكما ظهر في المعطيات المتوفرة أنه لم تكن هناك تقديرات بأن الاحتلال سيواصل عدوانه طوال هذه الفترة ويشن حرب إبادة، وهذا كان أمر مفترض توقّعه ويمكن تفسيره بأن حكومة اليمين المتطرف اعتبرت ذلك حربًا وجودية مصيرية وفرصة يجب عدم إضاعتها، وأنّ عدم الانتصار فيها سيضع علامات سؤال كبيرة بشأن وجود إسرائيل ودورها ومستقبلها ومكانتها الإستراتيجية في المنطقة.
لقد سادت تقديرات أن إسرائيل لن تتحمل حربًا طويلة تطال جبهتها الداخلية، وتتكبد فيها خسائر متنوعة، وخصوصًا بشرية، وأنها لن تكون هناك حرب برية، خاصة في بدايات الحرب، وأنه سيتم التوصل إلى صفقة تبادل وتهدئة مؤقتة وصولًا إلى وقف الحرب، إضافة إلى تقدير بأن يكون رد الضفة الغربية و48 أكبر بكثير مما حدث، ورد فعل العالم العربي، بما في ذلك الشعوب العربية أكبر بكثير مما حصل، في حين كان العجز والتواطؤ العربي ظاهرًا، باستثناء جبهات الإسناد وبعض المظاهرات التي شهدتها بعض العواصم العربية، بل وصل أحيانًا إلى مشاركة بعض الأطراف العربية في الدفاع عن العدوان وتسهيل وصول احتياجاته.
كما كان هناك على ما يبدو تصور ثبت خطؤه بأن التغير الحادث على المستوى العالمي ومجمل رد فعل العالم مع استثناء حركات التضامن القوية وما قامت به محكمتا العدل والجنائية الدوليتين، بما في ذلك رد وإسناد محور المقاومة والخلافات والتناقضات الداخلية الإسرائيلية، قادر على تقييد الحكومة الإسرائيلية التي وجدت بما جرى بدعم وشراكة أميركية ودعم غربي فرصة تاريخية لتنفيذ خطتها بحسم الصراع، وتصفية القضية الفلسطينية، والقضاء على محور المقاومة وتغيير الشرق الأوسط .
صحيح أن الحرب لم تحسم حتى الآن وأن حرب الإبادة لم تحقق أهدافها المعلنة، فلم يتم القضاء على المقاومة ولا الإفراج عن كل الأسرى والمحتجزين، ولم يصبح قطاع غزة لا يشكل تهديدًا ولم يعد المهجرون الإسرائيليون في غلاف غزة والشمال إلى بيوتهم، ولكن السيناريو السيئ يتقدم على السيناريوهات الأخرى وتحققت كارثة إنسانية كبرى بحق شعبنا في قطاع غزة، وتم إلى حد كبير احتلال قطاع غزة وجعله منطقة غير قابلة لحياة البشر، وجاري التخطيط لرسم مستقبله بمعزل عن الفلسطينيين.
وعلى الرغم من الفشل في تهجير أهل القطاع، فإن أكثر من 120 ألفًا غادروا قطاع غزة والعديد من أهل القطاع مضطرون لمغادرته ولو مؤقتًا إذا لم تتغير المعطيات وفتح المعبر أو أي ممر آخر حتى يعود منطقة صالحة للحياة.
ضربة كبيرة لحزب الله لم تقتله ولكن لا يمكن تجاهلها
أما على صعيد الجبهة الشمالية، فقد استطاعت قوات الاحتلال توجيه ضربة كبيرة لحزب الله عقابًا له على إسناد المقاومة الفلسطينية، من خلال اغتيال معظم قيادته السياسية والعسكرية، وعلى رأسهم السيد حسن نصر الله، أمينه العام والشخصية القيادية الاستثنائية.
غير أن هذه الضربة لم تقض عليه، ولن تقضي عليه، فهو حزب عقائدي تأثير الأفراد فيه أقل من الأحزاب السياسية غير العقائدية، بدليل الاستمرار في المقاومة وتصعيد حرب الإسناد وإطلاق الصواريخ والمعارك الباسلة على الحدود، التي أوقعت أعدادًا كبيرة من القتلى والجرحى، ولكن لا يمكن إسقاط “الإنجازات الإسرائيلية” في لبنان من الحساب، ولكن الحرب كما يقال سجال، يوم لك ويوم عليك.
ما العمل؟
لا مفر من استمرار الصمود والمقاومة والتركيز أساسًا على الاعتماد على الذات، من دون إهمال جبهات وساحات الإسناد وكل أشكال التضامن في أركان المعمورة الأربعة التي استطاعت زيادة كلفة العدوان ولكنها لم توقفه، والإدراك في ظل الاختلال الفادح في ميزان القوى والسقوط السياسي والأخلاقي المدوي للنظامين الإقليمي والدولي أن المرحلة ليست مرحلة تحقيق الأهداف الفلسطينية، بل مرحلة تعزيز عوامل الصمود والبقاء البشري على أرض فلسطين وإبقاء القضية حية وتقليل الأضرار والخسائر، والحفاظ على ما تبقى من عناصر قوة ومكتسبات، والسعي إلى إحباط أهداف العدوان ووضع العراقيل أمامه، ومواصلة العمل من أجل الوحدة على أسس وطنية وديمقراطية وكفاحية تعتمد على توازن القوى والمصالح والمبادئ وما هو ممكن، لأن أخطر ما يمكن أن يحدث المزيد من التشرذم والانقسام وفتح أبواب الفتن والاقتتال الداخلي.
لجنة إدارية فخ أم خطوة محسوبة
في هذا السياق، يمكن وضع استعداد حركة حماس لعدم الاستمرار في حكم قطاع غزة، الذي فتح الطريق للتوقيع على إعلان بكين الذي تضمن الاتفاق على تشكيل حكومة وفاق وطني بمرجعية وطنية واعتبارها خطوة محسوبة. أما فكرة تشكيل لجنة إدارية من شخصيات مستقلة في قطاع غزة تشكل بالتوافق، ويصدر مرسوم رئاسي بتشكيلها، فهي قد تكون فخًا وفكرة خطرة لأنها تتعامل مع قطاع غزة عمليًا بشكل منفصل عن الضفة المحتلة من دون تحديد موعد تشكيلها وصلاحياتها ومرجعيتها، خصوصًا مع عدم تشكيل حكومة وفاق وطني تكون مرجعيتها حتى لو تشكلت اللجنة الإدارية بمرسوم رئاسي وإشراف الحكومة الحالية المختلف عليها، لأن من طرح اللجنة الإدارية أولًا هم حكام واشنطن وبعض الأطراف الإقليمية، ثم تبناها الوسطاء العرب في محاولة للالتفاف على المعارضة الإسرائيلية لعودة السلطة من دون أي ضمانات بخطوات إسرائيلية وأميركية مقابلة.
إنّ المطروح فقط وعود أميركية لفظية من دون رصيد بأن تشكيل اللجنة الإدارية سينهي الاحتلال، فلنضع إدارة بايدن على المحك ولتقدم تعهدات وضمانات بعودة السلطة والانسحاب الإسرائيلي، وإلا سيصبح القطاع مثل الضفة تحت احتلال خمس نجوم من دون تحمل مسؤولياته، لأن هناك من يدفع التكاليف بدلًا منه.
يجب عدم تجاهل أن قطاع غزة أعيد احتلاله، وهناك مخططات لبقاء السيطرة الإسرائيلية على معبر رفح ومحور صلاح الدين الذي يسمى “فيلادلفيا”، ولإقامة مناطق عازلة، لا سيما في الشمال، وفي محور الشهداء الذي يسمى “نيتساريم”، كما تدل خطة الجنرالات التي اعتمدتها الحكومة الإسرائيلية أو في طريقها إلى ذلك، وهي تتضمن تفريغ الشمال من مئات الآلاف الذين لا يزالون مقيمين فيه على الرغم من الجحيم الذي يعيشونه، كما تشمل وضع توزيع المساعدات الإنسانية في يد جيش الاحتلال لاستخدامها لتشكيل وضع جديد يساعد على بقاء الاحتلال.
كما لا يجب تجاهل أن هناك أصواتًا في الحكومة الإسرائيلية يمثلها الوزيران بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، والعديد من وزراء حزب الليكود ونوابه في الكنيست، تطالب بإعادة الاستيطان للقطاع لأنه الحل الوحيد الذي يوفر الحماية للوجود الصهيوني.
من المفهوم لماذا تدرس حركتا حماس وفتح الاقتراح بتشكيل لجنة إدارية، فالوضع الإنساني ضاغط جدًا، وذلك لسحب الذرائع من أيدي الاحتلال، ولكن الموافقة على هذه الفكرة من دون حتى موافقة إسرائيلية عليها وقبل ضمان الانسحاب الإسرائيلي من القطاع أو الالتزام بالانسحاب، ستمنح الشرعية للاحتلال، وستشجعه على المضي في تقويض السلطة في الضفة للقضاء على أي تجسيد لهوية وطنية واحدة تبقي باب تجسيد الدولة والاستقلال مفتوحً. كما يدعم تشكيل لجنة إدارية فكرة واشنطن بإيجاد سلطة متجددة فعالة؛ أي أكثر استجابة لشروط الاحتلال، ويجعل الاحتلال خمس نجوم مثل ما هو قائم في الضفة الغربية.
لا بد من إدراك عميق وليس شكليًا أن حديث واشنطن عن حل الدولتين هو مجرد ضريبة كلامية لا أكثر، لا تمنع من مباركتها أو السكوت على ما يقوم به الاحتلال، وهناك إشارات على تغير الموقف الأميركي من تقديم النصائح لحكومة نتنياهو إلى الإعجاب بها، والمراهنة على قدرتها على تشكيل شرق أوسط جديد، وهو في الأصل فكرة أميركية. ألم تنتقل واشنطن من المطالبة بعودة السلطة إلى إيجاد سلطة متجددة، ومن رفض الاحتلال إلى تفهم الحاجة إلى احتلال مؤقت لقطاع غزة؟ ونحن نعلم جيدًا معنى المؤقت بعد مرور 25 عامًا على انتهاء الفترة الانتقالية المنصوص عليها في اتفاق أوسلو.