محاولة لاستحضار روح حبيب الزيودي في الذكرى الثانية عشرة لوفاته…
أسامة الرنتيسي –
الأول نيوز – بسيطا وسمحا ومتصالحا مع نفسه والآخرين.
نحيل القامة، لكن قامته الداخلية أعلى من جبال الشراه.
لين المعشر، لكنه متوقد مثل حجارة الصوان.
أيها الرقيق مثل سنبلة، والحميم مثل زيتون العالوك، عليك السلام، وعلى روحك أجمل وصايا الصبايا والشعراء.
في بداية التسعينيات، عندما غادرنا حقبة الأحكام العرفية، انفلج ليل الأحزاب، من السرية إلى العلنية، كانت الجامعات في الثمانينيات، بيت العمل الحزبي، ومنها يتفتح نهار الكوادر، وكان كل قروي مثقف
يصل الجامعات، علامة صراع بين الأحزاب لضمه إليها.
بعد إلغاء الأحكام العرفية، تشكل المكتب التنفيذي لرابطة الشباب الديمقراطي الأردني (رشاد)، التابع لحزب الشعب الديمقراطي الأردني (حشد) ، وإذا بنخبة من شباب الحزب أعضاء في المكتب التنفيذي، الدكتور محمد نعمان ورمضان رواشدة والفنان صلاح الحوراني وباسمة وراد وباسم عبيد والزميل المصور محمد ابو غوش والشاعر المبدع حبيب الزيودي والعبد الفقير، وكان يترأس المكتب نهاد أبو غوش، ويشرف عليه بتكليف من الحزب النائب السابق والوزيرالسابق والعين السابق بسام حدادين.
كان حبيب فاكهة الاجتماعات، حيث يحول الكلام الجاف إلى أمسيات شعرية، وكان مثلي أقل الملتزمين بالحضور.
كتب أشعارا وطنية تناسب المرحلة، وكتب قصيدة لا يمكنني يوما أن أنسى كلماتها، شعرت بأنها مهداة إلى ابنتي البكر وسن، من دون أن يقول حبيب ذلك، عنوانها يا حادي العيس، تقول كلماتها:
يا حادي العيس, أفنيت الفتى شجنا
أيقظت في قلبه الموجوع ما سكنا
ما مرّت الريح من صحراءَ قاحلةٍ
إلا تحرك في أعطافها فننا
يا حادي العيس, ذا شعبي وذا وطني
ما ذاقت العين من أوجاعه الوسنا
إنّا فَرشناه طِيبًا غامرًا وندى
وقد مَلأناه زهرًا عابقًا وسنى
وقد رفضناه سجنًا نستريح به
وقد رضيناه كي نحيا به كفنا
وإن تلا الناسُ أشعارًا على وطن
فقد تلونا على أوطاننا دمنا
كانت فلسطين يومًا طينة, وغدت
لما نفخنا بها أرواحنا, وطنا.
لقد تعرض حبيب الزيودي إلى عمليات خطف أكثر من مرة، خطف من الحركة الوطنية، ليقول شعرا مادحا، وخطف من فضائه الواسع، ليحشر في زوايا لم تكن تناسبه وإنما تناسب خاطفيه، لكنه قبل
أن يفارقنا بأيام، وفي رسالة إلى الزميل فهد الخيطان، أعلن براءته من تلك المرحلة لا بل هاجم أصحابها وذنبهم الذي “سلخه ليهز بذنبه الطويل الذي يلف عمان سبع لفات على طريقة الثعلب الهرم”.
في أيامه الأخيرة، كثّف حبيب من لقاءاته مع الأصدقاء القدامى، وتوسع ليمارس ما يمارسه كبار الشخصيات في عمان، حيث تحولت داره في العالوك إلى مكان لقاء الشخصيات السياسية ورؤساء
الوزراء السابقين، يصالح فيها الغاضبين، ويعيد الحياة للمهمشين من الشخصيات.
ثمة ميتة رحيمة، وثمة ميتات تأتي على حين غرة، تقصف عمر الإنسان من دون استئذان، لا تحاوره، لأنها تعرف أنها لا تستطيع مواجهته بالحوار، هي هكذا تغشى الجسد المتعب حتى تمنع النَّفَس عنه. لا تنظر إلى أن هذا الجسد سكنه القهر والظلم، فولج صاحبه زاوية في العتمة هربًا من سياط الواقع لا خوفًا ولا ترددًا، لكنها لحظة مداعبة لموت لا يقبل المزاح.
أيها الموت.. أعرف أنك لا تصوم، ولا تفرّق بين مفطر وصائم، وأعرف أنك لا تقبل المساومات حتى لو دعوناك لتجلس في صدر البيت، أعرف أنك لا تستجيب لنا، لكنني أتمنى أن تكون رحيمًا بمن
أحب الحياة، أتمنى ألا تمارس سياسة الخطف، فهي ليست لك بل للمجرمين والقتلة.
أيها الموت، أعرف أنك لا يمكن أن تصاحبني لأحدّثك عن أحباب خطفتهم، ونحن نرجو لهم حياة أطول، فهم أرق من غدرك، وأكثر لطفًا من لحظة اقترابك.
أيها الموت ألا تقبل أن ندعوك إلى فنجان قهوة، لعلنا نعقد معك صفقة، فتقبل بهدنة حتى لا تأتي غفلة، وإذا أمكن أن تأخذ غفوة قليلة فترحل عن عمرنا الذي سرق منا، فواتير مدفوعة لأبناء قادمين، يحلمون بالحياة، والحياة أصعب من قرط حجر الصوان.
أيها الموت ابتهج وافعل ما تراه مناسبا، لكن احذر الغدر….
(نشر في 29 تشرين الأوّل / أكتوبر 2012)