التَّوْجِيهِي… رِحْلَةٌ فِي “مُتَاهَةِ” التَّعْلِيمِ الوَطَنِيِّ

 

رحاب القضاة – الأول نيوز –

حِينَ قَرَأْتُ المَقَالَ الَّذِي أَثَارَ جَدَلًا حَوْلَ حَجْمِ مَادَّةِ التَّارِيخِ الوَطَنِيِّ وَتَأْثِيرِهَا عَلَى التَّوْجِيهِي، لَمْ أَتَمَالَكْ نَفْسِي مِنَ الضَّحِكِ.
لَيْسَ لِأَنَّ الأَمْرَ مُضْحِكٌ، بَلْ لِأَنَّ النِّقَاشَ حَوْلَ التَّوْجِيهِي دَائِمًا يَنْتَهِي بِحُلُولٍ عَبَثِيَّةٍ أَشْبَهَ بِوَصَفَاتِ الطَّهْيِ الَّتِي لَا يُجَرِّبُهَا أَحَدٌ.
دَعُونَا نَسِيرُ خُطْوَةً بِخُطْوَةٍ فِي هَذِهِ المُتَاهَةِ الَّتِي تُسَمَّى “تَطْوِيرَ التَّعْلِيمِ”، وَنَسْتَعْرِضُ السَّلْبِيَّاتِ وَنُقَدِّمُ الحُلُولَ، وَلَكِنْ بِنَكْهَةٍ خَفِيفَةٍ وَطَابِعٍ وَاقِعِيٍّ.

أَوَّلًا: التَّارِيخُ الوَطَنِيُّ… مَادَّةٌ أَمْ مَعْرَكَةٌ؟

مِنَ الوَاضِحِ أَنَّ النِّقَاشَ حَوْلَ حَجْمِ مَادَّةِ التَّارِيخِ الوَطَنِيِّ فِي التَّوْجِيهِي انْحَرَفَ عَنْ مَسَارِهِ.
فَالسُّؤَالُ لَيْسَ “كَمْ صَفْحَةً سَيَدْرُسُهَا الطَّالِبُ؟”
بَلْ “هَلْ تَعَلُّمُ هَذِهِ المَادَّةِ يُغَيِّرُ فِعْلِيًّا مِنْ جَوْدَةِ التَّعْلِيمِ؟”.

المُشْكِلَةُ لَيْسَتْ فِي مَادَّةِ التَّارِيخِ نَفْسِهَا، بَلْ فِي مَنْهَجِنَا الَّذِي يَجْعَلُ دِرَاسَةَ التَّارِيخِ أَشْبَهَ بِمُحَاوَلَةٍ لِفَهْمِ فِيلْمٍ قَدِيمٍ، وَلَكِنْ بِنُسْخَةٍ مُجْتَزَأَةٍ وَسَيِّئَةِ التَّرْجَمَةِ!

الحَلُّ:

بَدَلَ أَنْ نُحَوِّلَ التَّارِيخَ الوَطَنِيَّ إِلَى مُجَرَّدِ “حَشْوٍ” فِي المَنَاهِجِ، لِنَجْعَلْ مِنْهُ مَادَّةً تَفَاعُلِيَّةً تَرْوِي القِصَصَ وَتَجْعَلُ الطَّالِبَ جُزْءًا مِنَ التَّجْرِبَةِ. هَلْ سَيَتَغَيَّرُ شَيْءٌ؟
رُبَّمَا، عَلَى الأَقَلِّ لَنْ يَتَثَاءَبَ أَثْنَاءَ الحِصَّةِ.

ثَانِيًا: قَلَقُ التَّوْجِيهِي المُمتَدُّ عَلَى سَنَتَيْنِ

حَسَنًا، لِنَكُنْ وَاقِعِيِّينَ. تَمْدِيدُ قَلَقِ التَّوْجِيهِي عَلَى مَدَارِ سَنَتَيْنِ يُشْبِهُ تَمَامًا تَأْجِيلَ مَوْعِدِ طَبِيبِ الأَسْنَانِ. لَا يَعْنِي أَنَّكَ حَلَلْتَ المُشْكِلَةَ، بَلْ فَقَطْ زِدْتَ مِنْ وَقْتِ المُعَانَاةِ!
مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ هَذِهِ الخُطْوَةَ سَتُقَلِّلُ تَوَتُّرَ الطُّلَّابِ، رُبَّمَا لَمْ يُقَابِلْ طَالِبًا فِي حَيَاتِهِ.

الحَلُّ:

بَدَلَ التَّمْدِيدِ، لِنَجْعَلَ التَّوْجِيهِي تَجْرِبَةً مُسْتَمِرَّةً وَمُجَزَّأَةً طِوَالَ المَرْحَلَةِ الثَّانَوِيَّةِ.
امْتِحَانَاتٌ صَغِيرَةٌ، وَلَكِنَّهَا تُؤَثِّرُ تَدْرِيجِيًّا عَلَى المُعَدَّلِ النِّهَائِيِّ، مِثْلَ أَلْعَابِ الفِيدْيُو الَّتِي تُكَافِئُ اللاَّعِبَ فِي كُلِّ مُسْتَوًى.
عَلَى الأَقَلِّ، سَنَحْصُلُ عَلَى طُلَّابٍ يَشْعُرُونَ بِشَيْءٍ مِنَ الإِنْجَازِ بَدَلَ أَنْ يَعِيشُوا فِي “فِيلْمِ رُعْبٍ” طَوِيلٍ.

ثَالِثًا: التَّخَصُّصَاتُ وَحُلْمُ القَفَصِ الذَّهَبِيِّ

فِكْرَةُ إِجْبَارِ الطُّلَّابِ عَلَى اخْتِيَارِ تَخَصُّصٍ وَاحِدٍ فِي الثَّانِي الثَّانَوِيِّ تُشْبِهُ إِجْبَارَ طِفْلٍ عَلَى اخْتِيَارِ “لُعْبَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ” لِبَقِيَّةِ حَيَاتِهِ.
نَعَمْ، تَبْدُو الفِكْرَةُ مَنْطِقِيَّةً ظَاهِرِيًّا، وَلَكِنْ مَاذَا لَوِ اكْتَشَفَ الطَّالِبُ لَاحِقًا أَنَّهُ اخْتَارَ خَطَأً؟
مَا الحَلُّ إِذَا لَمْ يَحْصُلِ الطَّالِبُ عَلَى مَقْعَدٍ جَامِعِيٍّ فِي تَخَصُّصِهِ؟ النَّتِيجَةُ: شَابٌّ تَائِهٌ يَحْمِلُ شَهَادَةً، وَلَكِنَّهَا لَا تُؤَهِّلُهُ لِأَيِّ شَيْءٍ.

الحَلُّ:

لِنَجْعَلِ التَّعْلِيمَ أَكْثَرَ مَرُونَةً.
يُمْكِنُ لِلطَّالِبِ دِرَاسَةُ مَوَادَّ مُشْتَرَكَةٍ تَمْنَحُهُ فُرَصًا لِلتَّخَصُّصِ لَاحِقًا، دُونَ أَنْ تُغْلِقَ أَمَامَهُ الأَبْوَابَ الأُخْرَى.
تَخَيَّلْ مُهَنْدِسًا يَعْرِفُ كَيْفَ يَكْتُبُ مَقَالًا فَلْسَفِيًّا، أَوْ طَبِيبًا يُلْقِي الشِّعْرَ! لَا أَقُولُ إِنَّهُمْ سَيُصْبِحُونَ فَلَاسِفَةً، وَلَكِنْ عَلَى الأَقَلِّ لَنْ يَشْعُرُوا أَنَّ حَيَاتَهُمْ انْتَهَتْ عِنْدَ أَوَّلِ قَرَارٍ خَاطِئٍ.

رَابِعًا: التَّوْجِيهِي… هَلْ هُوَ مُشْكِلَةُ التَّعْلِيمِ؟

تَطْوِيرُ التَّوْجِيهِي دُونَ تَطْوِيرِ التَّعْلِيمِ يُشْبِهُ تَغْيِيرَ دِيكُورِ غُرْفَةٍ بَيْنَمَا السَّقْفُ يَنْهَارُ فَوْقَ رَأْسِكَ. بَدَلًا مِنَ التَّرْكِيزِ عَلَى “كَمْ سُؤَالًا يَحْتَاجُ الطَّالِبُ لِحِفْظِهِ”، عَلَيْنَا أَنْ نَسْأَلَ: مَاذَا نُرِيدُ مِنَ التَّعْلِيمِ؟

الحَلُّ:

تَطْوِيرُ التَّعْلِيمِ يَبْدَأُ مِنْ إِعَادَةِ صِيَاغَةِ المَنَاهِجِ لِتَكُونَ أَكْثَرَ ارْتِبَاطًا بِالحَيَاةِ الوَاقِعِيَّةِ.
نَحْنُ بِحَاجَةٍ إِلَى مَنْهَجٍ يَجْعَلُ الطَّالِبَ يُفَكِّرُ، لَا مُجَرَّدَ يَحْفَظُ. نَحْتَاجُ إِلَى تَعْلِيمٍ يُرَكِّزُ عَلَى المَهَارَاتِ، لَا عَلَى الحَشْوِ.

الخُلاصَةُ في الموضوع :

إن مُشْكِلَتُنَا لَيْسَتْ فِي حَجْمِ مَادَّةِ التَّارِيخِ، وَلَا فِي عَدَدِ سَنَوَاتِ التَّوْجِيهِي، وَلَا حَتَّى فِي التَّخَصُّصَاتِ. مُشْكِلَتُنَا فِي طَرِيقَةِ التَّفْكِيرِ الَّتِي تُرَكِّزُ عَلَى إِصْلَاحِ السَّطْحِ بَيْنَمَا الأَسَاسُ يَتَدَاعَى. التَّعْلِيمُ فِي جَوْهَرِهِ لَيْسَ وَرَقَةَ امْتِحَانٍ، بَلْ رِحْلَةٌ لِتَكْوِينِ العَقْلِ وَالشَّخْصِيَّةِ.

لِنُغَيِّرْ هَذِهِ الرِّحْلَةَ… وَلِنَجْعَلْهَا مُتْعَةً بَدَلَ أَنْ تَكُونَ مُجَرَّدَ فِيلْمٍ دِرَامِيٍّ طَوِيلٍ!

عن Alaa

شاهد أيضاً

السادية في التعامل مع أهل غزة: حين يتحول الإيذاء إلى سياسة ممنهجة

الأول نيوز – [صلاح ابو هنود] مخرج و كاتب منذ ما يزيد على 17 عامًا، …