الاول نيوز – كتبت: المهندسة ندى ابو عبده
هي المرأة الصالحة وهو الحادي والعشرين من آذار .. هي الأم الحنون وهو يوم التكريم والوفاء .. هي الأم والأخت والزوجة والسيدة والصابرة وهو الحادي والعشرين من آذار .. وفيه نقرأ معا كل الحكايات التي ” تفردت” بها الأم دون غيرها، ونقلب كل الأوراق والذكريات والعناوين لننحاز جميعا إلى ” أم عقل” ونهديها أجمل الكلمات والدعوات ونردد معا أهديك ما أهديك … أهديك في عيدك الغالي لا شيء يرضيك
وفي ذروة جمال آذار وزهوره الفواحة التي تنبتها الأرض الطيبة، التي تتزامن مع هذا اليوم العظيم للأم الصالحة لا بد لنا أن ننحاز ونؤشر على القصص والنجاحات التي تحققت للمرأة الأردنية في كافة المجالات، ذلك أن هذا اليوم أصبح يحمل معاني الأمومة والبذل والعطاء، تماما كما يحمل جمال الأرض وزهورها ودحنونها على امتداد الأفق، فيجسد التضحيات والعطاء للمرأة بشقيه الإيجابي والسلبي .
في آذار وجمال حضوره، نحتفي في المرأة تكريما وتقديرا ومحبة لأنها وأذار، صنوان للجمال والعطاء وهنا تبرز صورة ” أم أردنية ” اصبحت رمزًا للإرادة والتحدي والعطاء الموصول، صورة سيدة وهبت حياتها لأمومتها، وحملت رسالة امتدت لعشرين عامًا، عنوانها الصبر والإصرار والأمل، وتفاصيلها (وسيعلَمُ التوحُّد أن صبري يفوق الصبر)، حفرتها بالعلم والإرادة على صدر ابنها، لتكون شاهدة على مسيرة استثنائية من العطاء والبذل والتضحية.
أم قهرت الظروف وفازت بالأجر والمعروف، مؤكدة بذلك صحة المقولة ( أن الأم التي تهز السرير بيمناها قادرة على أن تهز العالم بيسراها)، فكيف إذا كانت هذه الأم هي بطلة قصتنا اليوم التي هزت جبروت التوحد، وقهرت سطوته وعناده، وسجلت في تاريخ التعليم والتربية والنجاح، سابقة من خلال عقلها وقلبها ورفيق دموعها.
بداية التحدي
في عام 2005، استقبلت هذه الأم طفلها الثالث، لكنه احتاج إلى رعاية الخداج، وهنا بدأت رحلتها مع التحديات، لجأت لطلب المساعدة، فكان للمرحوم “عقل بلتاجي” دورٌ حاسم في دعمه، ليُسجل هذا العرفان في قلبها، وتُسمي طفلها باسمه تكريمًا لروحه الوطنية.
لكن تلك اللحظات لم تكن سوى البداية، ومع حلول عام 2007، أدركت الأم أن التواصل مع ابنها لن يكون سهلاً، فانطلقت في رحلة بحث واستشارات طبية، لتكتشف أن التوحد ليس عقبة، بل مسار يحتاج إلى صبر وعمل دؤوب، فلم تستسلم، بل قررت مواجهة التحدي بنفسها.
رحلة العلم والإرادة
في عام 2009، التحقت صاحبة قصتنا بالجامعة الأردنية، وخضعت لتدريب مكثف بلغ 280 ساعة، لكي تفهم كيفية التعامل مع حالة ابنها، وبدأت بتطبيق ما تعلمته عمليًا.
لم تكتفِ بذلك، بل حصلت في ذات الفترة على دبلوم من معهد الصحة والسلام المهنية بدرجة امتياز وبعلامة هي الأعلى منذ تأسيس المعهد، حيث تم تكريمها من عدة جهات آنذاك وطلب وقتها رئيس مجلس سلطة المنطقة الخاصة المهندس حسني أبو غيداء، منها ان تقدم استقالتها من وزارة الصحة، بقوله لها ان كفاءة مثلك مكانها مفوضية البيئة، وللأسف كانت هناك معيقات حالت دون ذلك .
وتابعت رغم حالة ابنها التحصيل العلمي فحصلت على درجة البكالوريوس في هندسة البيئة والصحة والسلامة من جامعة الحسين بن طلال، مؤمنة بأن العلم هو سلاحها الأقوى والوحيد، هذا ما لفت انتباهي وأراه إلهامًا لأي أم تواجه أي عقبة كانت حياتها!
قرار صعب: بين الشمال والجنوب
في عام 2009، اتخذت واحدًا من أصعب قرارات حياتها؛ تركت وظيفتها مضطرة بسبب عدم التعاون معها وتقدير ظرفها الإنساني، رغم حاجتها للعمل وما تتطلبته حالة ابنها من انفاق وصرف، وكرست وقتها كله لرعاية ابنها والابحار معه في رحلة الانجاز.
لم يكن الأمر سهلاً، فقد انقسمت العائلة بين أقصى شمال المملكة الأردنية وأقصى جنوبها، بين العقبة وإربد! فانتقلت مع ابنها إلى إربد لتقيم به قريبا من المراكز المختصة، ليصبح نموذجًا للدراسة في جامعتي العلوم والتكنولوجيا واليرموك، كحالة يمكن تطويرها ضمن أبحاث التوحد لطلاب الجامعة آنذاك.
لحظة نور
عام 2011 كان عام التحول، حيث نطق ابنها أولى كلماته، لحظة أضاءت سنوات من الصبر والتعب، لتوثقها الأم بكل تفاصيلها في صور ومقاطع فيديو، حيث كانت تنشرها على منصات التواصل واليوتيوب تحديدا تحت اسم ( عقل الصمادي)، لتتأكد بأن العالم حولها يرى ما تراه ويسمع ويفهم صوته كما تسمعه هي، ولكي يكون عقل حالة متطورة ومثالا يحتذى، بعد توفيق الله عز وجل، ودليلًا على أن الإيمان بالنجاح يصنع المعجزات.
بصمة في المجتمع
بين عامي 2011-2020، لم تحتفظ الأم بتجربتها في مواجهة التوحد لنفسها، بل أسست مع زوجها مركزًا خاصًا في العقبة ( روضة عقل) لدمج بعض أطفال التوحد مع اقرانهم الاصحاء خدمة للمجتمع، لم يكن مشروعًا تجاريًا، بل مبادرة شبه تطوعية استمرت لسنوات، حتى أُغلق عام 2019، بعد ان ترك أثرًا إيجابيًا في حياة العديد من الأسر في العقبة، لا سيما أنها كانت تتواصل وتشارك تجربتها لأبعد من مدى المحافظة، ناشرةً الوعي والدعم لكل من يواجه تحديات مماثلة.
التحصيل العلمي لا يتوقف
في عام 2022، وفي طيات متابعة رحلة ابنها العلاجية، اكتشفت أن لديه قدرات استثنائية في الحفظ والكمبيوتر، فقررت ألا تتركه يواجه التحديات وحده، حيث التحقت بدبلوم تربوي في جامعة الحسين في معان، وحصلت عليه بتفوق، ثم تابعت دراسة ماجستير في هندسة الصحة والسلامة البيئية، لتكون (الأم الظل) التي ترافقه في مسيرته الأكاديمية.
إنجاز لا يُنسى
في فبراير 2025، تخرجت بدرجة الماجستير مع مرتبة الشرف من جامعة الحسين، لتضيف إنجازًا جديدًا لمسيرتها، وتؤكد أن العطاء لا يعرف الحدود، وها هي اليوم يقترن اسمها بقصة نجاح غير مسبوقة، فهي والدة أول طفل توحد في الأردن ،يُفتح له أول ورقة في ملف وزارة التربية والتعليم ليكون اول اردني يحصل على شهادة الثانوية العامة بنجاح، الطالب عقل عمر الصمادي.
أيقونة أمومية و اسم في حاضر و مستقبل العقبة
هذه ليست مجرد قصة أم، بل ملحمة من التحديات والصمود تُلهم كل أم، إنها مرام بركات، نموذجٌ للأمومة التي تُعيد تعريف التضحية، وتجسد قوة الإرادة التي تصنع المستحيل في يوم الأم، وكل يوم يليق بها التكريم، لأن ما قدمته لا يُقاس بالكلمات، بل يُخلّد في الذاكرة والقلوب.
