الأول نيوز – المحامية تاتيانا الزعبي
تبدو هذه العبارة للوهلة الاولى صادمة و متناقضة ، فهي تقلب المفهوم الكلاسيكي للظلم وتضع الضحية على شفير التحول الى جلاد ، لكنها في جوهرها دعوة للتأمل العميق في النفس البشرية ، وفي دوائر القهر الاجتماعي التي لا تنكسر الا بالوعي والعدالة.
الهاوية التي تحدق بك….
في اعماق الفكر الفلسفي ، لطالما كان الانسان كائنا يتأرجح بين الخير والشر ، بين الصبر على الألم والرغبة في اللإنتقام ، هذه العبارة تذكرنا بما قاله نيتشه: “من يقاتل الوحوش ، عليه ان يحذر ألا يتحول الى وحش هو نفسه ، واذا حدقت طويلا الى في الهاوية فأن الهاوية تحدق بك ايضا ” . حين يظلم الانسان طويلا يبدأ تدريجيا في تبني سلوك من ظلمه ، لا حبا في الظلم بل كرد فعل دفاعي أو كتعبير عن احتقان لم يجد له مخرجا. الظلم إذا لا يولد فقط وحوشا ، بل قد يعيد تشكيل الضحية على هيئة الجلاد ، إن لم يداوا الجرح في وقت ما.
التماهي مع المعتدي …..
في علم النقس يظهر مفهوم ” التماهي مع المعتدي” كوسيلة لا شعورية يواحه بها القرد الألم . الطفل الذي يتعرض للعنف الاسري مثلا قد يكبر ليكرر ذلك السلوك على ابنائه ، لأنه داخليا يرى في هذا العنف وسيلة للسيطرة التي حرم منها.
الضحية التي لم تنصف ، لم تحتضن ، تخزن مشاعر القهر ، وعندما يتاح لها موقع قوة تفرغ هذا الكم من الغضب في من حولها ، وقد تفعل ذلك دون وعي ظنا منها انها تسترد شيئا ضائعا . هنا يصبح الظلم آلية تشويه نفسي ، لا مجرد فعل خارجي.
تدوير القهر…..
المجتمات التي تبنى على القمع ، سواء كان سياسيا او أسريا أو دينيا ، تنتج اجيالا لا تعرف العدالة إلا كترف ، ولا ترى في القوة إلا وسيلة للنجاة . الطفل الذي يضرب في البيت ، يضرب زميله في المدرسة. الموظف الذي يهان من مديره يفرغ قهره في مرؤوسيه . وهكذا يستمر ” تدوير القهر ” بلا نهاية.
جورج اوربل في روايته “مزرعة الحيوان” جسد هذه الفكرة بعبارة شهيرة: “جميع الحيولنات متساوية ، لكن بعضها أكثر مساواة من الاخرين “.
كما رأينا تاريخيا في الثورة الفرنسية ، كيف تحول المظلومون الى طغاة في عهد الارهاب ، وفي تجارب ما بعد الاستعملر في افريقيا والعالم العربي ، حيث تحول قادة التحرير الى مستبدين يمارسون نفس اساليب القمع التي ناضلوا ضدها.
الوعي هو الكسر الوحيد للحلقة…..
مالك بن نبي ، المفكر الجزائري ، اشار ذات مرة الى ان :” المستعمر لم يكن ليستطيع ان يستعمرنا لولا قابلية الاستعمار في نفوسنا”. وهذه القابلية ليست ضعفا فطريا ، بل نتيجة تراكم طويل للظلم والتهميش وفقدان الوعي بالذات والحقوق. الخلاص من هذه الدائرة لا يكون بيد الضحية وحدها ، بل بمشروع مجتمعي يعيد بناء الانسان.
العدالة ليست فقط معاقبة الظالم ، بل هي ايضا تضميد جراح المظلوم حتى لا يتحول هو بدوره الى ظالم.
المجتمعات التي تفشل في تحقيق العدالة تهيء مسرحا لتبادل الادوار بين الجلاد والضحية.
اي دور ننتظر؟؟؟؟
المظلوم هو الظالم الذي ينتظر دوره ليست حكما على المظلوم ، بل جرس إنذار .
الظلم لا يكسر بمرور الوقت ، بل يعاد تدويره إذا لم يعالج . وكل انسان لا يمنح فرصة للعدالة قد يتحول الى جزء من سلسلة القهر القادمة.
الرهان اذا على الوعي ، على التربية ، على الانظمة التي تعيد للناس انسانيتهم قبل ان يطالبوا بحقوقهم .
المجتمع العادل لا يخرج ظالمين ، ولا يراكم مظلومين ، بل يربي احرارا.