كيف ستنقذون ما تبقى من غزة!

يوسف حسان * – الأول نيوز –

 

أكتب هذه الكلمات لكل من يبحث عن الحقيقة بلا تحيّز ولا انتماء حزبي، لكل من يريد أن يفهم ما جرى ويُدرك حجم الكارثة التي نعيشها في غزة، هذه شهادة للوعي لا للمزايدة، أما الحزبيون والمتعصبون، فلا نقاش بيننا وبينهم، والحظر أولى بهم.

النكبة التي حلت بنا في السابع من أكتوبر 2023، بدأت بقرار واحد، لكنها انتهت بانهيار مجتمع كامل، وانفجار مأساة مستمرة، هذا القرار الذي اتُخذ دون حكمة، كان بمثابة رصاصة الرحمة التي أُطلقت على ما تبقى من غزة، لم يكن مجرد عملية عسكرية، بل زلزالًا سياسيًا وأمنيًا واجتماعيًا مزّق غزة من الوريد إلى الوريد.

في قلب هذه الحكاية يقف يحيى السنــوار، قائد حركة حماس في غزة، رجلٌ خرج من سجون الاحتلال بعد 22 عامًا من العذاب والتنكيل، لا أحد يمكنه إنكار ما مرّ به من معاناة، لكن هذه السنوات كانت كفيلة بتغيير أي إنسان من الداخل، بتشويه نظرته للعالم، وبكسر جزء من توازنه النفسي والعقلي، بعد خروجه، دُفع نحو القيادة، كأن البعض أراد له أن يحمل عبء مهمة لم يكن مؤهّلًا لتحمّلها.

لم أؤمن يومًا بنظرية أنه عميل للاحتلال، فهذه اتهامات رخيصة، لكن الحقيقة المؤلمة أن الإنسان لا يحتاج أن يكون خائنًا حتى يُدمّر شعبه، يكفي أن يكون ساذجًا، حالمًا، يفتقر للحكمة ويقود بعاطفة لا يضبطها عقل، وهذا ما كان عليه السنـ،ـوار، رجل طيب في جوهره، قام بإصلاحات داخلية، وفتح الأبواب للناس، وواجه بعض ملفات الفساد، لكنه لم يكن القائد المناسب لوطن يعيش على فوهة بركان، وتحت حصار دائم.

من الطبيعي أن يحمل من خرج من السجن رغبة في الانتقام أكثر من البناء، وهذا ما جعله يرى في عملية 7 أكتوبر فرصة لإثبات ذاته، وتحرير الأسرى، واستعراض القوة، لكنه لم يدرك أن القفص الحقيقي لم يكن سجون الاحتلال، بل قفص التفكير الثأري وانعدام البصيرة، وهنا يكمن الخلل القاتل.

لقد سبقتنا إلى هذا النوع من الكوارث تجارب مشابهة، وأشدها وقعًا كان ما حدث في 11 سبتمبر 2001، يوم ضربت القاعدة قلب أمريكا، يوم اهتز العالم، وسقطت الأبراج، وتحطّمت معها منظومة كاملة من المفاهيم، الجميع ظنّ وقتها أن أمريكا ضُربت في عمقها، لكن الحقيقة التي باتت أكثر وضوحًا اليوم أن تلك العملية كانت، بشكل أو بآخر، في صالح الولايات المتحدة، وربما تمت بتسهيلات أو اختراقات أمنية مدروسة، لأنها شكّلت المبرر الذهبي لغزو العراق وأفغانستان، وضرب كل من يعارض مشروعها في الشرق الأوسط، خصوصًا الإسـ،ـلاميين.

نفس المشهد تكرر في غزة، قرار دون حساب للتبعات، من قام بعملية 7 أكتوبر لم يُقدّر حجم الرد، ولم يتخيّل أن “إسرائيل”، بدعم عالمي، سترد بمجزرة جماعية، بإبادة لا تستثني أحدًا، ما حصل بعد العملية كان جحيمًا حقيقيًا، آلاف الشـהــداء، أغلبهم نساء وأطفال، أحياء سُويت بالأرض، منازل دُمّرت فوق ساكنيها، والمجتمع تفكك بالكامل، حتى صرنا أمام مشهد أشبه بيوم القيامة.

والكارثة لا تقف عند القتل والدمار فقط، بل في ما تلا ذلك، انهيار تام للقانون، تفشي الجريمة، سيطرة العصابات، صمت الأجهزة الأمنية أو عجزها، لم تعد غزة مدينة، بل صارت خرابًا تملأه الفوضى والموت والبلطجة، والناس لم تعد تهاجر، بل تهرب.

كل ذلك، ولا يزال البعض يبرر ويقول: “هذا قضاء الله”، لكن الله قال في كتابه الحكيم: “ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة”، وقال أيضًا: “وهديناه النجدين”، نحن من اخترنا التهلكة، وركضنا نحوها بإرادتنا.

ونتساءل كيف ستحيون غزة!؟ كيف ستنقذون ما تبقى!؟ في عـ.ـدوان 2008 حتى اليوم، هناك من لم يُعوَّض، ومن لم يُعد بناء بيته! والآن تتحدثون عن واقع شبه مدمر بالكامل! من أين لكم الحلول!؟ ومن سيثق بكم مجددًا!؟ أنتم من بدأ، وأنتم من يتحمّل المسؤولية كاملة أمام الله، وأمام التاريخ، وأمام من تبقى من هذا الشعب.

آن الأوان لأن تُغلَّب مصلحة الوطن والمواطن على المصالح الشخصية والحزبية، آن الأوان أن تدركوا أن الاستمرار في هذا النهج هو خيانة، الانسحاب التام من المشهد بات هو الحل الأنسب لوقف نزيف الدم، لأن ما يحدث لم يعد حربًا، بل إبادة جماعية عرقية, أنتم وضعتمونا ووضعتم أنفسكم في موقف كارثي لا يُحسد عليه.

الواجب إطلاق مبادرة وطنية خالصة، تقوم على انسحاب جميع القيادات التي تورطت في قرار السابع من أكتوبر أو ساندته من المشهد السياسي والعـшـكري، كما ندعو إلى تفويض جهة عربية مستقلة، تحت مظلة جامعة الدول العربية، لتتسلم إدارة غزة بشكل مؤقت بهدف حماية ما تبقى من أرواح، والعمل على إعادة بناء ما يمكن إنقاذه، ولا بد أيضًا من إطلاق حوار وطني شامل يضم أبناء الوطن من الضفة وغزة والشتات، لإعادة صياغة المشروع الوطني الفلسطيني على أسس جديدة تقوم على الوحدة، والواقعية، وتحمل المسؤولية.

أما إعادة إعمار غزة، فلا يمكن أن تتم إلا بجهد دولي وعربي منسق، يُدار عبر سلطة مدنية وطنية جديدة تُمنح الشرعية الكاملة، وتُحاسب على كل تقصير.

لقد أثبتت التجارب أن التهور لا يُنتج حرية، وأن البطولة الزائفة لا تصنع مجدًا، وأن الدم لا يجلب الكرامة إذا كان يُسفك عبثًا، نحتاج اليوم إلى صوت العقل، وإلى بصيرة شجاعة، إلى التراجع الصادق لا إلى مزيد من العناد، فالتاريخ لن يرحم، والناس لن تنسى، والله لا يغفل.

  • كاتب صحفي فلسطيني مستقل – غزة

 

عن الأول نيوز

شاهد أيضاً

السادية في التعامل مع أهل غزة: حين يتحول الإيذاء إلى سياسة ممنهجة

الأول نيوز – [صلاح ابو هنود] مخرج و كاتب منذ ما يزيد على 17 عامًا، …