الأول نيوز – صلاح أبو هنود – كاتب ومخرج –
في زمنٍ طغى فيه السطح على العمق، وتحولت الكلمة من قنبلة إلى “محتوى”، يبدو سؤال إنقاذ الفن والأدب من المستنقع ضرورةً لا ترفًا. المستنقع هنا ليس فقط الرداءة، بل البلادة. هو غياب الهمّ، واستبدال المعنى بالتصفيق، والفكرة بالترند. فما الذي جرى؟ وكيف نُعيد للفن هيبته، وللأدب دوره الطبيعي كصوت من لا صوت له؟
أولًا: الكلمة أولًا… والقلق جوهرها
“هزمتك يا موت الفنونُ جميعُها”، لم تكن جملة شاعر يغازل الخلود، بل إعلان معركة. الكلمة ليست زينة لغوية، بل موقف. ما نراه اليوم في مشهد الكتابة العربي، غالبًا، هو طغيان الشكل على الروح. تغرق النصوص في البلاغة وتخلو من الحاجة الوجودية. الكاتب الحقيقي لا يكتب ليمرّ، بل ليُقلق، ليُحدث شرخًا في سكون الأشياء. لكي نخرج من المستنقع، يجب أن نعيد الاعتبار إلى الكلمة: أن نخافها، أن نحبها، أن ننزف معها لا عليها.
ثانيًا: الفن كحاجة لا كسلعة
في ظل اقتصاد السوق، أصبح الفن تابعًا للإعلان، والمسرح خادمًا للترفيه، والدراما ممرًا للضحك السريع. لكن الفن الحقيقي لا يُنتج، بل يُولد. لا يُسوّق، بل يُكتشف. لا يُقاس بعدد المشاهدات، بل بعدد القلوب التي رجّها، والعقول التي أزعجها. لن نحرّر الفن من مستنقعه ما دمنا نُسميه “محتوى”. تلك الكلمة التي تسوّي بين قصيدة درويش وتفاهة تيك توك. الفن ليس “تغذية بصرية”، بل جوع معرفي، حنين، صدمة، مقاومة.
ثالثًا: لا يكفي أن نلعن التفاهة… فلنقترح بدائل
الهجوم على الفن الرديء لا يصنع فنًا عظيمًا. البديل لا يُخلق من الفراغ، بل من تراكم التجربة، من الجدية، من النزيف اليومي على الورق. علينا أن نكتب ما يشبهنا، لا ما يُطلب منا. أن نخلق دراما تُعالج سؤال الإنسان العربي، لا انفعالاته المؤقتة. مسلسلات لا تسوّق للمثالية الزائفة أو الانحطاط المجاني، بل تمارس دورًا تربويًا وتاريخيًا وجماليًا. أن ننتج أعمالًا تستعيد وظيفة الفن كـ”نبوءة”، لا كسلعة موسمية.
رابعًا: نحتاج إلى مشروع ثقافي عنيد
محمود درويش، وليد سيف، سميح القاسم، جبرا إبراهيم جبرا، غسان كنفاني، نجيب محفوظ، عبد الرحمن منيف، الطيب صالح، محمد الماغوط، يوسف شاهين… هؤلاء لم يكونوا معجزات، بل أبناء بيئة آمنت أن الثقافة ضرورة، لا ترف. الخروج من المستنقع لا يمر فقط عبر النخب، بل عبر تأسيس بنية ثقافية جديدة:
– مؤسسات مستقلة تحمي الفنان لا تروّضه.
– نقاد أحرار لا يطلبون رضا أحد.
– جمهور ناضج لا يرضى بالسطح، بل يطلب العمق. وهنا نستعيد صدى الكواكبي: “صرخة الحرية في الشرق، كثيرًا ما تكون صرخة في واد.” ولعل صرخة الفن النزيه اليوم ليست بأحسن حال منها. لكن حتى إن لم يسمعنا أحد، علينا أن نصرخ.
وأخيرًا…
الفن والأدب العربي ليسا في أزمة إنتاج، بل في أزمة معنى. المعركة اليوم ليست ضد الانحطاط فقط، بل ضد اللامبالاة. ما نحتاجه هو أمل عنيد، لا يسحقه السوق، ولا يُسكتُه التصفيق. الفن ليس خادمًا للحياة… بل طريقٌ لفهمها، ومجابهتها، وتجميل قبحها، إن لزم الأمر.
صلاح أبو هنود
كاتب ومخرج
“ما زلتُ أحلم… فنبتة الإبداع لا تُسقى إلا بماء الأحلام.”