المملكة بين ذاكرة التأسيس ومسؤولية الامتداد

الأول نيوز – د. حسين سالم السرحان

في مسيرة الدولة الأردنية لم يكن البناء السياسي والمؤسسي ترفًا، بل ضرورة وجودية استدعتها ظروف النشأة، وصعوبات التكوين، وتشظِّي الواقع الإقليمي.

رجال الدولة الأوائل لم يحملوا لقبًا وظيفيًا فحسب، بل حملوا مسؤولية وجود وطن، وصياغة هوية، وإرساء أسس حكم قابل للاستمرارية والاستدامة، في ظل قلة الإمكانيات، وضيق الخيارات، وتعدد التحديات.

كانوا قلّة في العدد، كبارًا في الأثر وقد اشتغلوا على تأسيس بنية مؤسسية قائمة على قيم ومبادئ وطنية مخلصة، وشكّلوا في إدارة سلطات الدولة ومؤسساتها نموذجًا في الإخلاص والالتزام بالمُثل الأخلاقية في النزاهة، والانضباط، والشرف، والأمانة.
رغم ما واجهوه من محاولات تقويض المملكة من الخارج بتماسك عز نظيره في الجبهة الداخلية، وأداروا شؤون الحكم بعقل الدولة، وليس بمنطق الفرد أو المزاج.

غير أن الاعتراف بفضلهم لا يعني أن الزمن قد توقّف عندهم، ولا أن الأجيال التي أتت بعدهم أقل كفاءة، أو أدنى انتماء ووطنية.

فلكل مرحلة رجالها، ولكل سياق ظروفه، وما من جيل إلا وحمل تحدياته وفرصه، وأدواته ومنهجه. إن تجميد التاريخ عند لحظة معينة، والإصرار على تمجيدها دون تطويرها، يُفرغ الدولة من ديناميكيتها، ويحبس الفكرة الوطنية في قوالب الماضي وشخوصه، مما يخالف منطق الحياة، ودورتها، وكينونة الحاضر والمستقبل.

وقد لوحظ مؤخرًا، في كثير من الخطابات والمقالات، ميلٌ البعض إلى تصوير الماضي بوصفه الزمن الذهبي المطلق، في مقابل حاضر يُختزل بالإخفاقات، ويُتَّهم بالعجز أو التراجع،
وهذا التصور، وإن بدا وفاءً للمؤسسين، إلا أنه يحمل ظلمًا مضاعفًا للأجيال اللاحقة، وظلمًا أعمق للدولة نفسها التي يجب أن تبقى مشروعًا متجددًا لا يتوقف عند أسماء، مهما تعاظمت في الوجدان الوطني.

جيل اليوم ليس في موضع المقارنة، فلكل زمن خصوصيته، والدولة التي يريدها الأردنيون ليست دولة الماضي وحده، بل دولة الحاضر والمستقبل.

دولة تحترم منجزات الروّاد، لكنها لا تتوقف عندها، وتفتح الطريق للكفاءات الشابة، لا أن تُغلق الأبواب في وجوههم باسم “الخبرة” أو “التجربة”، أو أن تبقى أسيرة نماذج الماضي، مهما كانت إسهاماتها.

إن بناء الأوطان لا يتم بالتباين بين الأجيال، بل بتكاملها، فكما أن الخبرة ضرورة، فإن الطموح والطاقة والابتكار ليست أقل أهمية، والتنمية الوطنية لا تُنجز بعقلٍ واحد، بل بتعدد الخبرات، وتبادل الأدوار بين من أسّسوا، ومن يحملون اليوم مسؤولية الإكمال والتجديد.

إن الإيمان بالجيل الجديد لا يكون بالشعارات، بل بسياسات تؤسِّس للثقة، وتُصمّم فرصًا حقيقية للتقدّم والمشاركة، فتمكين الكفاءات الوطنية ليس شعارًا ، بل واجب وطني، وليس ترفًا سياسيًا، بل شرطٌ لبقاء الدولة قوية، نابضة، متوازنة بين ماضيها المجيد ومستقبلها المنشود.

وعلى صنّاع القرار أن يتذكروا بأن لا مستقبل لدولة لا تؤمن بأجيالها، ولا تُدير انتقال الخبرة والسلطة والمعرفة بوعيٍ وإقدام، فالجبناء لا يحمون وطنًا ولا يقدمون إنجازًا، وكما وُجدت دولة الرجال في الأمس يجب أن تُمنح الفرصة لتُولد دولة الكفاءات في الحاضر.

فالمستقبل لا يُكتب بالحذر وحده بل بالثقة، وما لم نُؤمن بأن لهذا الجيل القدرة على الإضافة فإننا نحكم على المشروع الوطني بالجمود.

إن استمرار فكرة الدولة الأردنية، التي بدأها رجال عظام منذ ما يزيد عن مائة عام مرهون اليوم بإرادة واعية تؤمن بأن لكل زمن أدواته، ولكل وطن طاقاته، ولكل مشروع امتداد مستدام.

وما نحتاجه اليوم ليس فقط استحضار الذاكرة، بل القدرة على صناعة ذاكرة جديدة، تستحق أن تُروى في الغد، بنفس الفخر الذي نرويه اليوم عن البدايات والمؤسسين، الذين كان لهم دور كبير في البناء والتأسيس.

فالدول لا تُبنى على لحظة مجدٍ واحدة، ولا تقف عند جيل بعينه. ووفاؤنا لرجال الدولة الأوائل لا يعني التشكيك والنظرة العدمية لطاقات الحاضر، بل الإيمان العميق باستمرارية المشروع الوطني عبر الأجيال.

حمى الله الأردن

عن Alaa

شاهد أيضاً

الشيخ طلال صيتان الماضي .. عباءة أردنية منذورة لنصرة المظلوم واغاثة الملهوف.

الاول نيوز – د. فايز ابو قاعود ليس من السهل الكتابة عن شخصية عشائرية بعباءة …