الأول نيوز – صلاح أبو هنود – مخرج وكاتب
في قلب كل صراع هوياتي يدور اليوم في منطقتنا، تكمن هذه الحقيقة البسيطة والعميقة:
الأرض لا تقبل من ينكرها.
لا تحتضن من يتعامل معها كغنيمة، ولا تصمت طويلًا على من ينكِر دماء أبنائها وتاريخ جذورها. فمن لم يتجذّر فيها، لفظه ترابها… ومن لم يحرثها بيده، لم يعرف معنى الوطن… ومن استدعى الغريب ليستولي عليها، لا مكان له فيها ولو ادّعى ألف نسب ونصّ.
هويات ما قبل الدولة: الأكراد والدروز والعبرانيون في ميزان الجغرافيا السياسية والانتساب الحضاري
في زمن تتنازع فيه الهويات وتُختَزل الانتماءات، لا بدّ من العودة إلى الجذور؛ لا تلك التي تحفر في الدم والعرق، بل تلك التي تنبت في الأرض، وتورق في التاريخ، وتشهد أن لكلّ من سكن هذه الأرض اسمه الأول، قبل أن تهبّ عليه رياح الدول والتقسيمات والادعاءات.
الأرض أولاً، لا العرق
سوريا، وبلاد الشام عامة، ليست أرضًا تنتسب لسكانها الحاليين أو الجدد، بل العكس تمامًا: السكان هم من ينتسبون إليها، مهما اختلفت أعراقهم ولهجاتهم ومذاهبهم. هي أمّ الحضارات، لا تسأل أبناءها من أين جاؤوا، بل ماذا صنعوا في ترابها.
فالأكراد، الذين يُعتبرون من أقدم الشعوب الهندوأوروبية في المنطقة، ليسوا ضيوفًا طارئين، بل مكونًا متجذرًا في شمال الهلال الخصيب، من جبال زاغروس إلى ضفاف الفرات. عاشوا في حضارات محلية، وتفاعلوا مع الفرس والعرب والعثمانيين، وقدموا نماذج بطولية في النضال والثقافة، من صلاح الدين الأيوبي إلى جكرخوين وملا الجزيري.
أما الدروز، فهم طائفة نشأت في سياق الفاطميين في القرن الحادي عشر، وتمركزت في جبل لبنان وجبل العرب، وامتزجت بجغرافيا المنطقة حتى صارت جزءًا من تضاريسها. لم يكونوا قومية، بل طائفة مغلقة دينيًا، لكنها مفتوحة على الولاء للأرض والجار والقبيلة. شاركوا في الثورات العربية، وواجهوا الاستعمار الفرنسي، ولعبوا دورًا مفصليًا في سوريا ولبنان.
قبل العبرانيين… من كان هنا؟
العبرانيون ليسوا أول من وطئ أرض فلسطين. قبلهم كان الكنعانيون واليبوسيون والفلستيون. وكان في أرض الشام حضارات نطوفية وأوغاريتية وآرامية. أما “إسرائيل” بمفهومها الديني والتوراتي، فهي رواية أحدث من الجغرافيا، صنعتها أساطير الشتات، لا وقائع المكان.
فحين يدّعي الخطاب الصهيوني أن اليهود “عادوا إلى أرضهم”، فهو يتغافل عن آلاف السنين من السكنى العربية في فلسطين، وعن أن التوراة نفسها لا تصف دخولًا سلميًا بل غزوًا دمويا. هذا يؤكد أن الهوية العبرية – كالدينية لا القومية – لم تكن يوما متجذرة في التراب، بل في النص.
الحاضر يتكلم لغة التمزق
اليوم، تُستخدم الهويات كأدوات تفتيت. تُضرب سوريا بأيدي “أبناءها” المزعومين: يُغرَّر بالدروز في الجنوب، ويُغري الغرب الأكراد في الشمال الشرقي بحلم الدولة، بينما يجري تثبيت “حق اليهود” في فلسطين بوعد القوة.
لكن الحقيقة الأعمق أن الكردي، والدرزي، والعربي، كلهم ضحايا هندسة دولية فرضت الحدود، وأعادت رسم الخرائط، وجعلت من الفروقات الإثنية مطية للسيطرة.
دعوة للعودة إلى الانتساب للتراب
ليس الحل في محو الهويات، بل في تحريرها من أدوات الخارج، وردّها إلى حضن الأرض. الكردي ابن جباله، لا عبد واشنطن. الدرزي ابن جبل العرب، لا أداة لموساد. واليهودي إن شاء السكنى بسلام، فأهلاً به إنسانيًا، أما إن جاء مستعمرًا، فلن يجد غير المقاومة.
علينا أن نكتب تاريخنا من جديد، لا من عيون العرق أو الطائفة، بل من شجرة الزيتون، من حجارة قاسيون، من ضفائر نساء عفرين، ومن تراتيل الخيول في جبل السماق.