أسامة الرنتيسي –
الأول نيوز – فعاليات كثيرة في مهرجان جرش هذا العام عكست الحالة الوطنية والإنسانية والإبادة الجماعية اللتين يتعرض لهما الشعب الفلسطيني في غزة، لعل مسرحية “النهر لن يفصلني عنكِ”، المأخوذة عن رواية الكاتب رمضان الرواشدة، برؤية درامية وإخراج صلاح الحوراني، وجسدها بإبداع الفنانون أريج دبابنة، نادين خوري، ومنذر خليل مصطفى كانت علامة بارزة في فعاليات المهرجان، وحضرت غزة بأوجاعها كاملة.
المسرحية؛ فرجة ممسرحة بالغناء والتمثيل والسينوغرافيا، دمج الغناء والموسيقى بالحوار والتمثيل، أبدع الحوراني في استلهام روح رواية الرواشدة التي تحمل عنوانا لوحده حكاية “النهر لن يفصلني عنك”، وحولها إلى عرض شائق لمدة 50 دقيقة فيه تكثيف للحالة العامة الموجودة في غزة.
فهناك الطفلة التي لم تصدق ان ما يحصل هناك “حقيقة وإلا حلم” وهناك سالم الطبيب الأردني ابن الجيش العربي الموجود في المستشفى الميداني، وهناك أم الشهيد الطفل المصرة على البحث عن رأسه الذي انفصل عن جسده حتى تراه الملائكة طفلا كاملا.
ليس سهلا أن تُحَوّل عملا روائيا إلى عمل مسرحي، قد يكون أسهل في عمل درامي تلفزي او فيلم سينمي، لكن في المسرح عليك أن ترصد روح العمل وتبني عليه كل ما تراه مناسبا لعمل ناجح حقيقي تقدمي.
لن أُلخص هذا العمل المبدع أكثر من كاتب النص ومخرج العمل صلاح الحوراني الذي قال….
“النهر لن يفصلني عنكِ “ليست حكاية حربٍ فقط، بل صراع ملحمي لصلاة دموية قديمة ممتدة، بين نيات خبيثة في صَلْب سيدنا المسيح على بلاط الأرض المقدسة وذبح ابن خالته يوحنا المعمدان في “مَكَّاوِر” على تلال الخاصرة الجنوبية لمدينة مادبا، وشلال الدم في يومنا هذا، والقابل أخطر على جسد إنساني ممزق بين مخزون ذاكرة المكان الحي والجراح القديمة.
في شهادة حارقة على ما تبقى من الإنسان في مواجهة الخراب، وما تبقى من الحب وسط الرماد، نَعْبُرُ في عرضنا المسرحي من نهرنا المقدس إلى الذات، ومن غَربنا الجريح النازف إلى القلب الذي لم يكفّ عن النبض بالأمل، “سالم” الضابط الطبيب الأردني المناوب في المستشفى العسكري في غزة، تطارده أشلاء الحرب المتوحشة على أخيه صاحب المكان، فلا يكون شخصية عابرة، بل هو شاهد نزف الذاكرة الجمعية. ليرى في المذبوحة مريم، صورة لفلسطين، الأم والحبيبة والأرض المقدسة. أما “القرين” فيرافقهما كظلٍّ من ضميرٍ عالق بين الفقد والرجاء، يقود وجدانهما الباطني في رحلة كرنفال الدم. لنعيد طرح السؤال: هل يمكن للروح أن تشفى في زمن التشظي؟ وهل ندرك رسالة نهرنا القديم المقدس في وحدة المصير والدم والحنين إلى المجد؟
يمتزج في مسرحنا الطقس بالمشهدية، والوجدان بالحقيقة، والنشيد بالصمت. فنغني القدس، ونبكي غزة، ونشهق باسم عمان وعجلون والكرك، لنمشي حفاة على ضوءٍ من حبّ لا يُخذَلُ. فبين دفوف الْمَوْلَوِيَّة ومقامات الإنشاد الصوفي، بين صوت الأذان والأجراس، بين الطفلة الجريحة الجائعة ولهيب الذاكرة المشتعلة، يصعد عرضنا كطقسٍ ملحميٍّ يعانق فيه الشعر الموسيقى، والمكان الزمان، والإنسان توأمه الإنسان.
عرضنا المسرحي هذا ليس بيانًا سياسيا، بل هو نداء وجداني لإنسانٍ عربيٍّ ما زال يؤمن أن مصاب فلسطين يَنزفُ من قلب الأردن، وأن الحرية لا تتجزأ، ولا هُوية الجغرافيا، ولا التأريخ، ولا منطوق الحق. فنقدم مسرحًا يرفع وثيقة إنسانية جمالية في وحدة الأرض والكرامة والمصير. نداء للضمير، ومرآة نُحدّق فيها جميعًا كي لا ننسى من نحن، وماذا خسرنا، وما الذي لا يزال يستحق أن نؤمن به.
الدايم الله…