الاول نيوز – جميل النمري
قبل ايام انعقد “ملتقى الحوار حول وحدة التيار الديمقراطي” بحضور ستة من الأمناء العامين للاحزاب التسعة التي دعيت الى جانب قيادات سياسية واجتماعية متنوعة مستقلين وحزبيين وهم عينة محدودة من العدد الكبير من الحزبيين السابقين، والاشخاص الذين يتعرفون على انفسهم بالأفكار والقيم التقدمية والتوجهات الاصلاحية لكنهم لا يرون انفسهم في اي من الأحزاب القائمة.
كان هدف الاجتماع مناقشة تجربة هذه الاحزاب مع مشروع التحديث السياسي والانتخابات النيابية الفائتة وبحث فرص وحدة “التيار الديمقراطي” بأي صيغة ممكنة.
وهذا اول اجتماع موسع لهذا الوسط السياسي لمراجعة نقدية لتجربة الانتخابات والفشل في إنشاء تحالف واسع. وكان الجميع قد خرج من الانتخابات يضرب كفا بكف بسبب تشتت الاصوات التي لم تصل بأي منهم الى العتبة بإستثناء حزب العمال وكانت تلك الاصوات معا تكفي للحصول على عدد من المقاعد يتجاوز اي حزب آخر بإستثناء جبهة العمل الاسلامي.
شعار الوحدة لهذا التياركان قد فقد مصداقيته ولا تسمع من محيط الاحزاب سوى عبارات ساخرة او يائسة. بل ان كتابات ظهرت حتى من داخل بعض الاحزاب بما في ذلك الحزب الذي بادر للدعوة اعلنت رأيا يهاجم المبادرة ويشكك في خلفيتها واهدافها. وقيل كيف لحزب يعجز عن تسوية الانقسامات في داخله ان يذهب للوحدة مع احزاب اخرى.
أن هناك انقسامات وخلافات داخل بعض الأحزاب فهذا لا يمكن انكاره .. لكن قد يكون سببا اضافيا للقول ان وحدة التيارهي الحلّ. هذه الخلافات والانقسامات كانت تقود الى انشقاقات وتوالد احزاب جديدة وبالحد الادنى استقالات ونزيف في العضوية يزيد الحزب ضعفا. وهذا حال لن ينتهي في المدى المنظور لكن يمكن احتواء الجميع احزابا ومنابر ومجموعات في اطار جبهوي مرن يتوحد على برنامج اصلاحي واهداف وطنية رئيسية في مقدمتها الانتخابات، فلا تعود الانقسامات الداخلية الضيقة الدوافع في اي حزب مهمة للرأي العام لإن الاطار الجبهوي يتسع للجميع احزابا وافرادا ومجموعات وفق قدرات وفعالية كل طرف.
دائما اجد من يسألني مندهشا من اين استمد التفاؤل مع واقع ميؤوس منه لهذه الدرجة؟! في السياسة لا تحركنا اسباب التفاؤل والتشاؤم بل تحديات الواقع والضرورة المتكررة لفتح افق لا سبيل للتقدم سواه. هذا ما دمنا نشتغل في العمل العام بمبادىء واخلاق وقيم.
الف مرة فشلت محاولات التوحيد وكل مرة يظهر انها البديل الوحيد. وهذا ما حدث في الانتخابات النيابية الأخيرة وهذا ما دفع الاحزاب للقاء مجددا.
قد يقال ان الأحزاب الموجودة أدوات مهترئة لا يراهن عليها ويجب البحث عن ادوات جديدة! لكن من قال ان هذا الاستخلاص لم يجرب ؟ انا وآخرين عندما يئسنا من اليسار القديم حاولنا بناء يسار جديد خارج القوالب العقائدية والمرجعيات القديمة يسار ديمقراطي وطني دستوري ملتصق بالمصلحة الوطنية العليا فوق اي اعتبار ومنحاز للعدالة الاجتماعية ومصالح الفئات الوسطى والدنيا في المجتمع لكن لم نتمكن من جمع كل من يحمل هذا التوجه في حزب واحد. وظهر مع مرحلة التحديث السياسي اكثر من حزب يعتمد نفس التوجه بدرجات متفاوتة فاصبح مطروحا مهمة توحيدها. والحال ان هذا يحدث عند الجميع وبالكاد تجد تمايزا يبرر العدد الوافر من الأحزاب من الوسط لأقصى اليمين بإستثناء التيار الاسلامي.
ويحمل البعض المسؤولية لدوائر القرار في الدولة ورعايتها للولادة القيصرية لأحزاب جديدة ضمن ما اطلق عليه تهكما “الهندسة السياسية” لكن حسب علمنا فإن نيّة هذه الهندسة المفترضة تقليص عدد الاحزاب الى واحد او اثنين لكل تيار في الوسط واليمين واليسار بدليل ان قانون الأحزاب اشترط عدد مؤسسين لا يقل عن الف وقانون انتخاب اشترط تحصيل القائمة الحزبية على 2,5 % من الاصوات كحد ادنى. وأقول توحيد اليسار ايضا لأن منظور التحديث السياسي اذ يرى الوسط عمود التوازن فمن الضروري وجود كتلة وازنة على اليسار تعادل الكتلة القوية الموجودة على اليمين.
لم تكن فرضية وجود حزب كبير واحد لكل تيار واقعية. ويتم الاستشهاد كثيرا بالنموذج البريطاني وأكثر منه الامريكي حيث يوجد حزبان فقط يتقاسمان الانتخابات لكن للعملية الحزبية في كل بلد تاريخ مختلف وسياق خاص. والحقيقة ان الحزبين في الولايات المتحدة هما مجرد ماكينة تصفية انتخابية تشارك بها احزاب ومجموعات ولوبيات شتى. وتحت مظلة الحزب الديمقراطي يترشح أناس يذهبون من الوسطية الليبرالية الى الاشتراكية.
عشية الانتخابات كان لدينا اكثر من ثلاثين حزبا لا يمكن دمجها قسرا لكن كان يمكن انشاء إئتلاف انتخابي لأحزاب كل التيار يشكلون كتلة واحدة في مجلس النواب. وما حال دون ذلك هو النظام الانتخابي (القائمة المغلقة) وقد طالبت بإلحاح وقدمت مقترحا لتعديل بسيط في القانون لتيسير الإئتلافات دون جدوى واتت نتائج الانتخابات لتؤكد كم كان هذا التعديل ضروريا واعتقد انه سيكون حتميا في اي تعديل لقانون الانتخاب. وهو ما سيجعل الإئتلافات الآنتخابية كألية لتوحيد الأحزاب المتقاربة حتمية.
ليس سرا ان التوجه اليوم هو ان تذهب الاحزاب المتقاربة للإندماج. بالنسبة للتيار الديمقراطي واقصد الأحزاب التي تقف على يسار الوسط وحتى اقصى اليسار فالاندماج ليس واردا، وقد يكون محتملا لعدد محدود منها فقط. لكن الفرصة قوية جدا لصيغة اتحادية واسعة مرنة تضم الجميع ويجد كل طرف مصلحة فيها.
في هذه الورشة الحوارية (الملتقى حول وحدة التيار الديمقراطي) ساد مناخ ايجابي وموضوعي وعلمي والمداخلات كلها من الحزبيين والمستقلين انتهت الى استخلاصات متشابهه. وكان يمكن ان تبقى كلاما بكلام مثل أي ورشة حوار أخرى لولا اجماع الحضور على ضرورة انتاج آلية متابعة عملية لمشروع الوحدة وقد تم بالفعل اقرار هذه الآلية وهي آلية مفتوحة لمشاركة أية اطراف جديدة، وأعتقد ان بعض الاحزاب التي غابت عن الورشة لسبب أو لآخر ستجد نفسها منجذبه للمشاركة في هذه الآلية حتى لا تعزل نفسها. والميزة في الآلية الجديدة انها تشمل ايضا المستقلين كشركاء أصلاء وبهذا تستدعي تجربة التجمع الديمقراطي مطلع التسعينات التي ضمت قيادات سياسية ونقابية ونيابية مستقلّة الى جانب قادة الاحزاب السياسية.
الى اين ستنتهي هذه الآلية ؟ ليس معروفا. المهم انها تؤسس منصّة ثابتة للقاء وبحث كل الاحتمالات والصيغ وتداول المقترحات دون ان يتوقف المسار على خلاف هنا او هناك مع هذا الطرف او ذاك. في النهاية الهدف أن ينشأ تكتل سياسي على اليسار يعمل بآليات عصرية ويجد كل واحد لنفسه مكانا فيه ويتقدم للجمهور بعنوان موحد في كل المحطات الضرورية وخصوصا الانتخابات.
