الاول نيوز – صلاح ابو هنود
مخرج وكاتب
الشعوب لا تنهزم إلا إذا انكسرت إرادتها. قد تسقط المدن وتُهدم البيوت وتُحتل الأوطان وتنهار الجيوش، غير أن الهزيمة الحقيقية لا تبدأ من الخارج بل من الداخل، حين يتسرب اليأس إلى النفوس ويستبد الاستسلام بالعقول، فيتحول الشعب من كائن حي نابض إلى ظل فاقد القدرة على الحلم والنهضة.
إن خسارة الأرض قد تُعوَّض، وسقوط الرايات قد يُرفع من جديد، أما انكسار الإرادة فهو موت بطيء لا عودة منه.
التاريخ شاهد على أن الشعوب التي صمدت انتصرت ولو بعد حين. فلسطين على مدى أكثر من سبعين عامًا لم تُخضعها آلة الاحتلال، فالطفل الذي يلقي حجراً على دبابة، والأم التي تزغرد لابنها الشهيد، والأسير الذي يزرع الأمل في زنزانته الضيقة؛ جميعهم يؤكدون أن الإرادة أقوى من السلاح. وفيتنام خرجت من حرب مدمرة مع أعتى قوة في العالم لا تحمل سوى العزم والإصرار، فانتزعت حريتها لأن إرادتها لم تتزحزح. والجزائر قدمت مليون شهيد تحت نير استعمار دام أكثر من قرن، لكنها في النهاية فرضت وجودها وانتزعت استقلالها، لأن إرادة شعبها لم تعرف الهزيمة.
وليس التاريخ وحده من يقرر هذه الحقيقة، بل الفكر أيضًا. فقد قال روسو إن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع، والمنتزع الحقيقي هو الإرادة الجمعية حين تتجسد في وعي الشعب. أما مالك بن نبي فقد نبّه إلى أن الاستعمار لا يعيش إلا في الفراغ الداخلي الذي نصنعه نحن حين نفقد ثقتنا بأنفسنا، أي حين نهزم ذاتنا قبل أن يهزمنا الآخر.
وفي الأدب صدى لهذه الحقيقة التي تتجاوز الحدود والجغرافيا. محمود درويش حين كتب: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”، لم يكن يكتب شعراً فحسب، بل كان يعلن باسم شعبه أن الحياة نفسها تُقاوم، وأن الذاكرة تُصبح سلاحًا في وجه المحو. وتشي جيفارا حين قال: “يمكن للرصاص أن يقتل الإنسان، لكنه لا يقتل الفكرة”، كان يضع بوصلة لكل الثورات التي تستمد قوتها من إيمانها العميق بجدوى التضحية.
لهذا فإن الشعوب، مهما كانت جراحها غائرة، تظل قادرة على النهوض إذا تمسكت بإرادتها، لأنها آخر القلاع وأقدسها. الاحتلال يمكن أن يسيطر على الأرض، لكنه لا يملك مفاتيح الروح. الحرب قد تهدم الحجر، لكنها لا تهدم العزائم. وحين يحافظ الشعب على جذوة الإرادة متقدة، فإنه يحافظ على سر الخلود، ويضمن أن فجر الحرية لا بد أن يولد، ولو طال ليل الهزيمة.
ولذلك نقول لنتنياهو اليوم: إنك لن تنتصر، لأنك تحارب شعبًا لم يعرف الانكسار، وأمة اعتادت أن تنهض من تحت الرماد كطائر الفينيق. قد تملك الطائرات والدبابات والجيوش، لكنك لا تملك كسر الإرادة. والتاريخ كله من حولك يصرخ: من يقف في وجه الشعوب لا ينتصر، ومن يظن أن القوة وحدها تكفي، يكتشف متأخرًا أن الحديد يصدأ، أما الإرادة الحية فتبقى أقوى من كل سلاح. وإن ركام غزة الذي تظنه خرابًا ليس سوى مدرسة في الصمود، سيُلقّنك درسًا في أن الشعوب لا تنهزم، وأن الإرادة إذا اشتعلت لا يطفئها قصف ولا حصار
—