الاول نيوز – صلاح ابو هنود
مخرج وكاتب
الشهادة في الوجدان الفلسطيني ليست موتًا عابرًا، بل عبورٌ إلى أفق آخر يتجاوز حدود الجسد والزمن.
في لحظة الاستشهاد تُلغى كل المعادلات الأرضية: لا حساب ولا عقاب، بل خلود فوري في رحاب الجنة. إنها قفزة نورانية من ضيق التراب إلى سعة الغيب، حيث يُفتح بابٌ لا يُغلق، ويُستبدل الفقد باليقين.
الفلسطيني حين ينطق بكلمة “شهيد” لا يتحدث عن موت، بل عن ارتقاء مزدوج: ارتقاء الروح إلى بارئها، وارتقاء الاسم إلى سفر الخلود في ذاكرة الأمة. هنا يتحول الغياب إلى حضور، والفقد إلى معنى أبدي. البيوت التي تودّع أبناءها الشهداء لا تظل بيوتًا عادية؛ تتحول إلى مقامات نور، ترفرف فيها الصور والأعلام، وتصدح منها حكايات تتناقلها الأجيال.
الأم الفلسطينية، وهي تمسح دموعها، تعرف أن ابنها لم يُنتزع منها، بل سبقها إلى مكان أرحب، حيٌّ عند ربه يُرزق. والأب، وهو يرفع رأسه عاليًا، يوقن أن ابنه ترك جسده في الأرض لكنه صار نجمًا لا ينطفئ في سماء الوطن. هذا اليقين لا يقوم إلا على تصديق الغيب: الإيمان بأن وراء المشهد المرئي حياةً أخرى، أن الدم لا ينطفئ في التراب بل يتحول إلى نهرٍ من الرحمة والكرامة.
تصديق الغيب هو ما يمنح الفلسطينيين القدرة على تحويل لحظة الفقد إلى طاقة مقاومة. إنه ما يجعل قلب الأم يتحول من جرح إلى راية، وما يجعل صمت الأب يصدح بالكرامة. فمن دون الغيب، لكانت الشهادة موتًا فقط، لكن بالإيمان تصبح ولادةً جديدة في الدنيا والآخرة معًا.
الشهادة في الوعي الفلسطيني إذن ليست جسدًا ينطفئ، بل بذرةً تورق حياة.
ليست غيابًا، بل حضورًا سرمديًا.
ليست خسارة، بل ربحًا لا يُقدَّر.
إنها المعادلة المعكوسة التي لا يفهمها إلا من آمن أن “ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون”.
وهكذا يبقى صوت الشهيد ممتدًا في الجبال والوديان، في الأغاني والأدعية، في الحكايات والذاكرة، يردد على مسامع الدنيا:
“لا موت في الشهادة… بل حياة تتسع للخلود”