الأول نيوز – صلاح أبو هنود –
مخرج وكاتب –
يشهد العالم اليوم ظاهرة لافتة في المشهد الثقافي والفني: أغاني وأفلام وكتابات تتوالى من عواصم مختلفة، تحمل موقفًا صريحًا من القضية الفلسطينية. لم يعد الأمر مجرد تعاطف عابر أو تصريح فردي، بل بات يتشكل كمخزون متراكم من الإنتاج الفني والفكري الذي يعكس قناعة أخلاقية بضرورة الانتصار للإنسان المقهور.
الفن كذاكرة جماعية
الفن بطبيعته لا يتبنى قضية إلا عن قناعة، وعندما تتجه موجة عالمية إلى نصرة قضية بعينها فهذا يعني أن الضمير الإنساني يضغط على الفنان قبل أن يضغط على السياسي. في السنوات الأخيرة، ومع انكشاف الجرائم بالصوت والصورة عبر وسائل التواصل، وجد الفنانون أنفسهم أمام مسؤولية أخلاقية لا يمكن التراجع عنها. كل أغنية أو فيلم أو لوحة باتت تشكّل لبنة في ذاكرة إنسانية مشتركة، تُرسّخ سردية الضحية وتفكك دعايات المحتل.
الخسائر المادية المباشرة
انعكست هذه الظاهرة على أرض الواقع بخسائر مالية واضحة:
انسحابات جماعية من مهرجانات كبرى، مثلما حدث في إسبانيا، وما تبعها من خسارة عقود ورعايات وتراجع مبيعات.
توقيع آلاف العاملين في السينما العالمية على بيانات مقاطعة، مما يهدد صادرات إسرائيل الثقافية ويعطل قدرتها على الوصول إلى الأسواق والمهرجانات.
تأثيرات على السياحة الثقافية والاستثمارات في صناعة الترفيه، إذ باتت شركات كبرى تتجنب الارتباط باسم إسرائيل تجنبًا للضغط الشعبي.
هذه الخسائر وإن بدت آنية، فإنها تضرب بنية صناعة تعتمد على التعاون الدولي والسمعة الحسنة، ما يعني فقدان فرص مستقبلية لا تُعوّض بسهولة.
الخسائر المعنوية الأخطر
لكن الخسارة الأعمق تكمن في المجال الرمزي والمعنوي. إسرائيل أنفقت لعقود طويلة مليارات الدولارات على صناعة صورتها كـ “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، وها هي اليوم تفقد هذه الصورة تدريجيًا. تراكم الأعمال الفنية المناهضة لها يحفر في وجدان الشعوب، ويعيد صياغة الرأي العام العالمي على أسس أخلاقية جديدة.
إن الشرعية التي كانت تستند إليها إسرائيل في عيون جزء من العالم الغربي تتآكل بسرعة، وذاكرتها المصنوعة تنهار أمام ذاكرة إنسانية حقيقية تبنيها الأغاني والأفلام والروايات والشهادات الحية.
البعد الاستراتيجي
المدى البعيد هو الأخطر على إسرائيل:
تآكل النفوذ الثقافي في الجامعات والمهرجانات والمنتديات العالمية.
ضغوط متزايدة على الحكومات الغربية التي لم تعد قادرة على تجاهل صوت الشارع.
تكوين ذاكرة مضادة تنشأ عليها الأجيال المقبلة، بحيث لا تجد إسرائيل مكانًا آمنًا لروايتها الرسمية.
خاتمة
الخسارة إذن ليست فقط أرقامًا في دفاتر اقتصادية، بل هي انهيار تدريجي لشرعية كانت تُسوّق عبر الفن والدعاية لعقود طويلة. واليوم، حين يصبح الفن نفسه أداة اتهام وكشف، فإن إسرائيل تجد نفسها في مواجهة مع التاريخ والضمير الإنساني معًا