الشعوبُ الواعية أساس الرقيِّ والتحضُّر

الدكتور مالك صوان –

 

الأول نيوز – كلما سافرتُ إلى دولةٍ وتعرفتُ على حضارتها، تأثرتُ بها وبرقيِّ وأخلاقِ شعبها، هذا الأمرُ يدعوني دائمًا إلى التأملِ العميق والجلوس مع النفسِ كثيرًا ومطولًا، ويثيرُ ويستنهضُ في داخلي عدّةَ تساؤلاتٍ دقيقةٍ ومهمة، ما السرُّ خلفَ هذا الرقيِّ؟ وما هي الضوابطُ والقيمُ التي تجعلهمْ ينتمونَ لكل شيءٍ في أوطانهم؟ بماذا يختلفونَ عن شعوبنا العربيةِ؟ هل هم مختلفونَ في تكوينهمْ أم فقط في تفكيرهمْ؟

هذه الشعوبُ لم تصل إلى ما هي عليهِ عبثًا، ولم يخلقها اللهُ هكذا، أو يصطفيها على بقيةِ خلقه، هذه الشعوبُ عانتْ من الظلمِ والجوّرِ والفسادِ، لكنها ناضلتْ وجاهدتْ، وضحَّتْ، وتعلمتْ، واعتبرتْ للوصولِ إلى هذه الحياةِ الجميلةِ الهادئةِ المُرفَّهة، شهِدَتْ أجيالُ هذه الشعوبِ الأوربية -ومنها الشعبُ الألمانيّ- انتكاساتٍ مريرةٍ مُضنيةٍ أليمة، سواءً في القرونِ الوسطى وما بعدها في الحربينِ العالميتينِ، هذه الثوراتُ والحروبُ أثَّرتْ بشكلٍ كبيرٍ ومباشرٍ عليها، وتركت تجاربَ وألمًا عظيمًا في نفوسها، جعلتها تتعظُ وتعتبرُ وتصِرُّ على النهوضِ من جديدٍ.

الحروبُ والثوراتُ دمَّرتِ المدنَ والقرى، مما أدى إلى نزوحِ السكان وانتشارِ الفقرِ والجوعِ وزيادةٍ في معدلاتِ البطالة؛ البنى التحتيةُ انهارتْ، مما أثَّرَ على التجارةِ والاقتصاد، الأمراضُ والأوبئةُ انتشرتْ وقضتْ على ملايينِ الأشخاص، ولم تسلمْ المدارسُ والمكتباتُ والكنائسُ من بطشِ وقسوةِ الحروبِ، فانهارتْ القيمُ الاجتماعيةُ والثقافيةُ والدينية وكان لها تأثيرات وصدمات نفسية وعقلية جسيمة.

أدتِ هذه الحروب إلى ظهورِ أنظمةٍ جديدةٍ وتغييراتٍ في السلطة، الحروبُ العالمية أضعفتِ القوى الاستعمارية، وأظهرت أنظمةً عالميةً جديدة، مما أدى إلى ظهورِ حركات التحرُّرِ الوطنيِّ في العديدِ من البلدان وانتشارِ الأفكارِ الشيوعيةِ في بعضها، ولاحقًا، ونتيجةً لكلِّ هذهِ المعاناةِ في حقبٍ مختلفةٍ، ظهرت نخبٌ وطنيةٌ نظيفةٌ شريفةٌ، عملتْ على خلقِ مجتمعٍ من الأممِ الطموحةِ الواعية، تؤمن بأنَّ التحديات تصنعُ المعجزات، وتصنعُ الحافز والأمل والإيمان بأنَّ القادمَ سيكونُ الأفضلَ، تَطوَّرَ هذا العمل الذي أفضى إلى تأسيس الاتحاد الأوروبي فيما بعد.

أعودُ إلى تساؤلاتيَّ أعلاه، لكن بتطبيقها على شعوبنا العربيةِ، فما هي الضوابطُ والقيمُ التي يجبُ علينا اتباعها لننتمي لكل شيءٍ في أوطاننا؟ بماذا نختلفُ عن هذهِ الشعوب؟ هل نحنُ مختلفونَ في تكويننا أم في تفكيرنا فقط؟ أم أننا اعتدنا لعنَ الحياةِ والتذمرَ وجلدَ الذاتِ والنيلَ من المستقبلِ وتدميرِ كلّ ما هو جميل؟

نعم، نحن كما وصفنا اللهُ في القرآنِ الكريم، {كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس}، وهذا سيكونُ ردُّ ورأيُ الغالبيةِ من أبناءِ أمتنا التي كانت عظيمة، لكنْ يبقى السؤالُ: هل حافظنا على وصفِ ربِّنا لنا، وماذا فعلنا للحفاظِ عليهِ، أم أننا تجاوزناهُ وبدأنا باختلاقِ الأعذارِ ليسامحنا اللهُ ولنرفعِ المسؤوليةِ عن كواهلنا؟، للأسفِ أقولها وفي القلبِ غصّةٌ وألمٌ: أننا نُطبِّقُ الشطرَ الثالثَ من السؤالِ، نعم نحن شعوبٌ تتحلى بصفاتٍ عظيمةٍ ولديها من التاريخِ العظيمِ المُشرِّفِ ما يكفي أُمَمًا، ولدينا من القيمِ والأخلاقِ والقدرات والكفاءاتِ العلميةِ ما يؤهلنا لنكونَ سادة العالمِ كما كنَّا، لكنْ وبكلِّ صراحةٍ نفتقرُ لأمورٍ كثيرةٍ تركناها وراء ظهورنا فوصلنا إلى ما نحنُ عليهِ الآنَ.

أنا كعربيٍّ أردنيٍّ، يفتخرُ بأصلهِ وجذوره، وديانتهِ ومعتقده، من حقي أن يكونَ لديَّ حلمٌ جميلٌ، أعملُ من أجلهِ وأضحي لأجلهِ، وأنْ أرى أمتي وبلادها، وشعبي وبلادي في مصافِّ الدولِ المتقدمةِ المُزدهرةِ المُرفهة، الراقيةِ بأخلاقِ وقيمِ شعبها المنتمي لترابِ وطنهِ، كلُّ أساسياتِ الازدهار والرقيِّ بين أيدينا، لكنها بحاجةٍ للاغتنامٍ وصفنةٍ مع الذاتِ، والبدءُ يكونُ بالنفسِ وتهذيبها، فكفانا أيها العربُ وكفانا أيها الأردنيونَ تذمرًا وتشاؤمًا، ولنعملْ سويًّا لأجلِ أوطانٍ أجملَ وأكثر منعةً وعزةً وكرامة، ولنطوِّرْ ونعزِّزْ ما بدأهُ أولئكَ المنتمونَ الحقيقيونَ؛ الذين يبحثون عن رفعةِ الأوطان، لكن للأسف معظمهم صامتون، فبلادنا الجميلةُ العظيمةُ تستحقُّ منَّا أكثرَ وأكثرَ.

 

عن الأول نيوز

شاهد أيضاً

النشر المكثف عن القوات المسلحة الأردنية والأمن العام بين الخصوصية والمخاطر

الأول نيوز – د. حسين سالم السرحان هي حالة أردنية بامتياز، ولعلها غير موجودة بذات …