الأول نيوز – محمد قاسم عابورة –
في بقعةٍ من الأرض ، لا تزيد مساحتها على 365 كيلومتراً، تُختزل فيها اليوم أعظم معاني الصراع الوجودي ، إنها غزة الشعلة المتوهجة ، التي تحولت من محض رقم وسط خريطة الضعف والخذلان ، إلى صانع لقوانين القوة ، وإلى بوصلةٍ تُعيد توجيه العالم ، بل وتعيد تعريف مفهوم “القوة” نفسه ، إنها الزلزال الذي لم يهدأ، الذي انطلق من وسط ركام مبانيها ليصل هديره إلى قارات الأرض ، فيعيد تشكيل تحالفاتها ويهز عروش سردياتها المزيفة.
يقف مليونان من أبناء غزة بصمود وشجاعة في مواجهة أعتى آلة عسكرية والأكثر همجية على مدي التاريخ ، أهل غزة ليسوا مجرد أرقام في جداول الأحياء أوالجرحى والشهداء ، بل هم حراسٌ للكرامة ، وصانعو لحظة التحول التاريخي ، بتضحياتهم وبصمودهم وبدمائهم يعيدون إحياء معنى “الإنسان” في زمن القتل والتدمير ، وبصبرهم ودماء أطفالهم يصنعون أعظم عملية “تصحيح” لمسار التاريخ الإنساني ، إنهم يُعيدون تلقين وتعليم ثمانية مليارات من البشر ويذكرونهم بإنسانيتهم ، ويعلمونهم دروساً في الكرامة ، وشجاعة المقاومة، وثمن الحرية .
لقد أطلقت غزة طوفانها العظيم ، طوفاناً من الحق والوعي، طوفاناً يغسل ما تراكم في العقل الجمعي للعالم من “عفن التاريخ”. لقد ظل العالم لقرون أسير سرديةٍ استعماريةٍ صهيونية ، مُغرقة في عنصريتها ، تقدم نفسها بوصفها الحقيقة المطلقة والمقدسة، والمستمدة من أساطير توراتية وتلمودية مشوهة ، لقد جاء هذا الطوفان الغزي ليجتاح هذه السدود الوهمية ويحطم أركانها ، وليغسل العقول من رواسبها، وليعيد تأهيل الضمير العالمي ليتعلم من جديد “أبجدية التاريخ الحقيقية”، تلك التي كُتبت أول مرة على سواحل كنعان، ومنها انطلقت شعلة المعرفة والحضارة إلى العالم أجمع .
ها هي الأبجدية نفسها ومن السواحل ذاتها ، من أرض فينيقيا وكنعان ، ومن غزة بالتحديد، تُكتب اليوم من جديد ، فالفصول الجديدة للتاريخ الإنساني تُكتب من بين أنقاض بيوت غزة ، وبدماء أطفالها، وبإرادة وصمود اهلها ومقاوميها ، فمع كل صرخة تطلق من بين الركام ، ومن كل نقطة دم يتم كتابة سطر جديد ، ويعيد رسم خريطة السياسة العالمية ، و يهز أركان التحالفات التقليدية ، ويُجبر الأمم على إعادة تعريف مواقفها، واختياراتها، ومستقبلها .
لقد أصبحت غزة مقياساً للضمير، ومحكاً للصدق ، فالعالم ما بعد “طوفان غزة” لن يكون كما كان قبله ، ستحمل الخريطة السياسية الجديدة بصمة غزة التي لا تُنسى ، وسيكون لفلسطين حضورها ، ولن يكون حضورها حضور الضحية ، بل حضور الصانع للتاريخ ، والكاتب لأعظم دروس التضحية من أجل العدالة والتحرر .
لم تعد غزة مجرد مساحة ، أو تجمعا بشريا ، إنها فكرة متجسدة ، وروح حية تسري في عروق الإنسانية ، وهي البوصلة نحو الحق والحقيقة ، هي الصاعق الذي فجّر الحقائق المدفونة تحت أنقاض الصمت والخذلان ، لقد أثبتت غزة أن الجغرافيا لا تُقاس بالمساحة ، بل بالإرادة ، وأن التاريخ لا يُصنع بالأماني ، بل بالتضحيات ، وإن كان العالم قد نسِي يوماً أن ارض الشام هي مركز التاريخ وعمود السماء ، فقد أجبرته غزة على أن يتذكر، وأن يرى كيف فرضت غزة نفسها محوراً أساسياً في معادلات القوى الدولية ، وإنها المختبر الذي تُصهر فيه مفاهيم جديدة للسياسة والأخلاق ، و هي المنارة التي تُضيء الطريق لكل أحرار العالم .