محمد قاسم عابورة – الأول نيوز –
لم يكن طوفان 7 أكتوبر2023 مجرد عملية عسكرية تقليدية ضمن الصراع العربي الصهيوني المزمن ، بل كان حدثاً استراتيجياً هزَّ أركان النظام الإقليمي ، ومُحدثاً تصدعات عميقة في التوازنات السياسية التي استقرت عليها لعقود ، لقد مثل هذا الحدث لحظة تحول مفصلية ، انتقلت فيها القضية الفلسطينية من حالة التهميش والإقصاء إلى صدارة الاهتمام العالمي ، ليس كمجرد قضية إنسانية عابرة ، بل كقضية سياسية مركزية تتعلق بأسس العدالة الدولية وشرعية النظام العالمي نفسه .
قبل طوفان السابع من أكتوبر، كانت القضية الفلسطينية ترزح تحت كمّ من ضغوط وأزمات مركية ، فعلى الصعيد الداخلي والذي تمثل في الانقسام السياسي الحاد بين الضفة الغربية ، التي أنهكها ضعف السلطة الفلسطينية وتراجع شرعيتها الشعبية ، وقطاع غزة المحاصرمن الكيان ، ويخضع تحت سيطرة حركة حماس ، وهذا الانقسام خدم الاستراتيجية الصهيونية القائمة على ” فرّق تَسُد ” ، محوّلاً القضية من قضية تحرر وطني إلى ملف إداري ثانوي .
أما على الصعيد الإقليمي ، فقد شهدنا تراجعاً ممنهجاً للمكانة المركزية للقضية الفلسطينية وتحولاً في موقعها النسبي ضمن أولويات السياسة العربية ، حيث لم تعد تحتل الحيز المركزي ذاته في ظل المستجدات الإقليمية ، وقد تجلى هذا التحول من خلال توقيع عدد من الدول العربية اتفاقيات لتطبيع العلاقات مع الكيان بشكل منفصل وبعيدا عن تحقيق أي تقدم ملموس في المسار السياسي الفلسطيني .
و على الصعيد الدولي ، فقد شهدت القضية الفلسطينية عملية اختزال منهجية في الخطاب السياسي الغربي ، حيث جرى حصرها في إطارين يفتقران إلى الرؤية الجوهرية للصراع ، فتم اختزال القضية الفلسطينية إلى مجرد تداعيات إنسانية تُدار عبر المساعدات ، مما يحوّلها من قضية سياسية تتعلق بالحقوق والوجود إلى أزمة إغاثة عابرة ، أو تم التعامل معها في إطار أمني وربطها بشكل انتقائي بمسائل “مكافحة الإرهاب ” ، في عملية تسييس تهدف إلى تجريد القضية من أبعادها العادلة وتبرير الإجراءات القمعية الصهيونية ، في ظل استمرار التوسع الاستيطاني ، والدعم الدولي للكيان وتغطية جرائمه .
في المقابل، يتم إفراغ المبادئ الأساسية للقانون الدولي ، وعلى رأسها حق الشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير ، وتم تفريغ القرارات الدولية ذات العلاقة من مضمونها الفعلي ، محوّلاً إياها إلى خطاب شكلي تتناقض معه الوقائع على الأرض ، هذا التناقض يتجلى في استمرار تعاظم المشروع الاستيطاني الاستعماري ، وفي الدعم السياسي والعسكري والدبلوماسي غير المشروط الذي يتلقاه الكيان المحتل ، مما يُعطِّل أي إمكانية لتحقيق العدل والعدالة ، ويُعمِّق من حالة الإفلات من العقاب التي تميز كيفية التعامل الدولي مع هذه القضية المصيرية .
في هذا الواقع المرير من الجمود ، ومن الخذلان و الظلم التاريخي المستمر ، وتمادي الكيان في قضم الأراضي وسياسات التنكيل والإعتداء اليومي على الشعب الفلسطسني جاء طوفان الأقصى ، وزلزال غزة ، والذي كان ليس مجرد عملا عسكؤيا تقليديا بل فعلاٍ سياسياً بامتياز في جوهره ونتائجه ، ومؤدياً إلى تحطيم ثلاث معادلات أساسية : –
1 – معادلة “الأمن من دون تكلفة” و التي مكنت الكيان من الاحتفاظ بحالة احتلال دائم دون دفع ثمن سياسي حقيقي ، معتقداً أنه قادر على “إدارة” الصراع بدلاً من حله ، وقد كشف الرد الصهيوني الإجرامي، تحت شعار “الدفاع عن النفس”، عن أزمة استراتيجية عميقة ، فبدلاً من تحقيق نصر سريع ، تحول إلى عملية عقاب جماعي كشفت عن طبيعة الاحتلال الوحشية ، مما تسبب في تآكل سريع وملموس للرصيد الأخلاقي والدبلوماسي للكيان وسرديته على مستوى العالم .
2 – معادلة “التطبيع المجاني ” والتي سمحت لدول عربية بإقامة علاقات كاملة مع الكيان مقابل وعود أمريكية أو منافع اقتصادية آنية ، دون الحاجة إلى تقديم تنازلات جوهرية للفلسطينيين أو الضغط من أجل نيل بعض من حقوقهم ، ولكن بعد 7 أكتوبر وجدت الدول المطبعة نفسها في موقف دفاعي أمام موجة غضب عارمة من الرأي العام العربي الذي أعاد القضية الفلسطينية إلى الواجهة كقضية وجودية وليس فقط سياسية ، ولم يعد التطبيع مجانياً ، بل أصبح مرتبطاً بكلفة شرعية داخلية باهظة .
3 – معادلة “الاحتواء الإقليمي”والدولي ” والتي حولت القضية الفلسطينية إلى مجرد ملف ثانوي ضمن أولويات متنافسة ، كالمواجهة مع إيران أو المصالح الاقتصادية ، ولكن في أجواء 7 أكتوبر شهدنا لأول مرة منذ عقود انقساماً جوهرياً في الرأي العام والمؤسسات الغربية ، مع خروج مظاهرات مليونية في تحدٍّ صريح للرواية الصهيونية التقليدية ، و في نفس السياق برزت قوى مثل الصين وروسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا كلاعبين جدد ، مما كسر الاحتكار الغربي-الأمريكي لإدارة ملفات الإقليم .
لقد نقل السابع من أكتوبر الشعب الفلسطيني من كونه مجرد موضوع وعنوان لقضية ، إلى طرف فاعل لا يمكن تجاهله ، بل وقادر على قلب الطاولة وإجبار العالم على مواجهة جذور الأزمة ، كما أعاد تعريف مفهوم المقاومة في الوعي الجمعي العالمي من مجرد فعل عسكري تكتيكي إلى استراتيجية سياسية قادرة على إعادة ترتيب الأولويات .
رغم الثمن الإنساني الباهظ ، ورغم الدمار ، يمثل 7 أكتوبر نهاية النظام الإقليمي القائم على ثنائية التطبيع مقابل الصمت على الاحتلال ، صحيح أن المستقبل السياسي ما بعد الزلزال لا يزال غير محسوم ، فهو يحتمل انزلاقاً نحو صراع إقليمي أوسع ، أو ولادة نظام إقليمي جديد يقوم على موازين قوى يكون الثمن السياسي للاحتلال فيه أعلى ، وكلفة تجاهل الحقوق الفلسطينية أكبر ، ولكن بات من المؤكد أن العالم قبل 7 أكتوبر ليس هو العالم بعده ، فقد نجح الحدث في إيقاظ الضمير العالمي من سباته ، مؤكداً حقيقة سياسية راسخة : أن إرادة الشعوب وقدرتها على الصمود هما المحركان الأقوى للتغيير، وأن حقوق الأمم لا تُورّث بالرضوخ والنسيان ، بل تُسترد بالتضحيات والإرادة والمقاومة .