إعادة تعريف المهارات في عصر الإنشاءات الرقمي … من الخرسانة الى الخوارزميات

الاول نيوز –  شاكر خليف

*وداعًا لعصر التخصص الواحد*

خوذة بيضاء، مخططات ورقية، ويد تدير العمل في موقع يملؤه الغبار وضجيج المعدات ، هذه الصورة للمهندس في قطاع الإنشاءات التي ظلت صامدة لعقود بدأت تتلاشى بسرعة ، فالثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي لن تغير فقط أدواتنا، بل ستفكك أسس التخصصات الهندسية التقليدية لتعيد تركيبها في أدوار جديدة هجينة لم تكن موجودة قبل عقد من الزمان بحيث لم يعد يكفي أن تكون مهندسًا مدنيًا أو معماريًا أو ميكانيكيًا فقط لأن المستقبل يتطلب “مهندس بيانات” يفهم في الخرسانة، و”مبرمج روبوتات” يقرأ المخططات الإنشائية و”خبير استدامة” يحسب البصمة الكربونية لكل مسمار في المبنى ، وهنا نحن لا نتحدث عن وظائف إضافية بل عن جوهر جديد للمهنة الهندسية، حيث القيمة الحقيقية لم تعد في إدارة الموارد المادية فحسب، بل في تصميم وإدارة وتكامل الأنظمة “الفيزيائية-الرقمية” المعقدة .

*خريطة الوظائف الجديدة* …
*ملامح المستقبل المهني في الإنشاءات*

إن ملامح هذا المستقبل المهني بدأت تتشكل من خلال مجموعة من الأدوار الجديدة التي تحول التركيز من “البناء” إلى “تكنولوجيا البناء”. في طليعة هذه الأدوار يأتي مهندس الواجهات الحاسوبية (Computational Designer)، الذي تحول إلى ما يشبه “كاتب الخوارزميات”؛ فهو لا يرسم تصميمًا واحدًا، بل يحدد الأهداف والمعايير لنظام ذكاء اصطناعي ليقوم بتوليد آلاف الحلول المحسّنة، محولاً التصميم من فن حدسي إلى علم دقيق قائم على البيانات. وبجانبه، يبرز دور مدير الأصول الرقمية (Digital Asset Manager) كوريث مباشر لمهندس الموقع ولكن في العالم الرقمي ، مهمته هي بناء وإدارة “التوأم الرقمي” الحي للمشروع، ليصبح بعد التسليم “طبيب المبنى” الذي يستخدم البيانات لتشخيص المشاكل قبل وقوعها وتقديم قيمة ممتدة لمالك العقار.
وفي قلب الموقع الفعلي، يظهر مهندس أتمتة الإنشاءات (Construction Automation Engineer) كحلقة وصل حيوية بين العالم الرقمي والمادي، حيث يترجم نماذج BIM إلى تعليمات تفهمها الروبوتات والطابعات ثلاثية الأبعاد، ويدير أسطول الآلات الذكية في الموقع، إن هذا التحول نحو الأتمتة سيرافقه وعي بيئي متزايد يجسده دور متخصص استدامة البناء والتحليل الكربوني (Sustainability & Carbon Analyst) و هذا الخبير سيعمل كـ “المحاسب البيئي” للمشروع مستخدمًا برمجيات متخصصة لحساب “الكربون المتجسد” في كل قرار، مما يجعل القيمة “الخضراء” للمشروع لا تقل أهمية عن قيمته المالية .
ولضمان عمل كل هذه التقنيات معًا، لا بد من وجود مهندس تكامل الأنظمة الإنشائية (Construction Systems Integrator)، الذي يعمل كـ “دبلوماسي رقمي” يربط بين جميع البرمجيات والمنصات المختلفة، ويهدم “جزر البيانات” المنعزلة ليخلق نظامًا عصبيًا رقميًا متكاملًا للمشروع، وأخيرًا يقف متخصص الطباعة ثلاثية الأبعاد للمباني (3D Construction Printing Specialist) في طليعة الثورة الصناعية حيث يجمع بين علوم المواد والبرمجة والهندسة ليقوم “بطباعة” المباني طبقة فوق طبقة، مبتكرًا طرقًا جديدة للبناء كانت في حكم المستحيل .

*نقابة المهندسين الأردنيين.. من حارس للمهنة إلى صانع للمستقبل*

إن ظهور هذه التخصصات الهجينة ليس مجرد تحديث للمهارات، بل هو تحول جوهري في هوية المهنة الهندسية ذاته ، وفي هذا السياق يقع على عاتق المؤسسات الراعية للمهنة مسؤولية تاريخية، وفي مقدمتها نقابة المهندسين الأردنيين ، فلم يعد دور النقابة يقتصر على حماية حقوق المهندسين وتنظيم ممارسة المهنة وفق أسسها التقليدية، بل أصبح لزامًا عليها أن تتحلى بمرونة استثنائية حتى تتحول إلى “حاضنة مهارات مستقبلية” وذلك من خلال :

* إعادة تعريف برامج الاعتماد والتأهيل
* بناء شراكات استراتيجية
* تبني المرونة في التشريعات

يجب أن ندرك بأن الشركات التي ستقود السوق غداً لن تبحث عن مهندسين يديرون المشاريع فحسب، بل عن مبتكرين يصممون ويبنون ويديرون “أنظمة البناء” الذكية وفي هذا رسالة واضحة وحاسمة للمهندسين الحاليين والجيل القادم بأن المعرفة الهندسية الأساسية ستظل هي الأساس لكنها لن تكون كافية ، فالمستقبل هو لمن يضيف إلى صندوق أدواته الهندسي طبقات من المهارات الرقمية مثل البرمجة، تحليل البيانات، إدارة الأنظمة، وفهم الذكاء الاصطناعي .

ختاما ، يجب على الجامعات أن تعيد بناء مناهجها، وعلى النقابات أن تطور برامجها، وعلى كل مهندس أن يبدأ رحلة التعلم الذاتي اليوم فالمستقبل لن يلغي دور المهندس، ولكنه سيرفعه إلى مستوى جديد من الأهمية والتأثير .

عن Alaa

شاهد أيضاً

محكمة أمن الدولة… درع العدالة الذي يحمي الوطن

د. أحمد الطهاروه – الأول نيوز – في مشهدٍ يؤكد أن الأردن دولة قانون ومؤسسات، …