الأول نيوز – صلاح ابو هنود –
مخرج وكاتب
منذ أن دخل دونالد ترامب المشهد السياسي الأمريكي، قدّم نفسه بوصفه رجل “الصفقات الكبرى”، الذي يؤمن أن العالم لا يُدار بالمشاعر أو القوانين، بل بالإرادة والقوة. ولعل أبرز ما ميّز خطابه السياسي هو مفهوم «سلام القوة» الذي حاول تسويقه كصيغة جديدة للهيمنة تحت غطاء السلام. غير أن هذا المفهوم، في جوهره، لا يقدّم سلاماً حقيقياً، بل استسلاماً تاماً لإرادة الأقوى، وتبريراً ضمنياً لاستخدام العنف والإبادة متى عجزت الكلمات عن فرض الخضوع.
القوة أولاً… ثم يجيء السلام
في فلسفة ترامب السياسية، لا مكان للتوازن أو التفاهم المتبادل. فالعلاقات الدولية، كما يراها، أشبه بمائدة تفاوض بين تاجرٍ ومشتري، من يملك المال أو السلاح يفرض شروطه، ومن لا يملك عليه أن يرضخ. وهكذا، صار «السلام» في قاموسه نتيجة طبيعية للهيمنة، لا للحوار. هو سلام يكتبه المنتصر على الورق بعد أن يُخضع خصمه، ويُسكت صوته بالقصف أو بالعقوبات أو بالعزل السياسي.
هذه النظرة ظهرت بوضوح في سياساته الخارجية: من الانسحاب من الاتفاقات الدولية، إلى الضغط الاقتصادي على الخصوم، إلى منح الغطاء الكامل لإسرائيل في كل حروبها، تحت شعار “الحق في الدفاع عن النفس”، بينما كان العالم يرى في المشهد إبادة جماعية موثّقة بالصوت والصورة.
سلام القوة أم سلام القبور؟
حين يرفع ترامب شعاره “السلام عبر القوة”، يبدو كمن يقدّم للعالم وصفة جاهزة لـ “سلام القبور”. فالسكوت الذي يفرضه السلاح ليس سلاماً، بل توقفٌ مؤقتٌ للحياة. إنّ من يُجبر الشعوب على الصمت بالقوة لا يصنع سلاماً بل يزرع بذور حربٍ مؤجلة. ولعلّ التجارب التاريخية – من فيتنام إلى العراق إلى غزة – تؤكد أن فرض السلام بالقهر لا يولّد سوى المزيد من المقاومة، وأنّ الشعوب قد تُهزم مؤقتاً لكنها لا تستسلم للأبد.
إنّ «سلام القوة» عند ترامب، ليس سوى قناعٍ لغطرسة القوة الأميركية والإسرائيلية. فهو سلام يقوم على منطق الإذعان، لا على العدالة. سلامٌ يُراد به إلغاء الآخر، وتذويب إرادته في إرادة السيد الأمريكي. لذلك لا يتردد في تبرير الإبادة ما دامت تخدم مشروع “الردع”، ولا يرى بأساً في سقوط آلاف الضحايا ما دام الهدف «فرض النظام».
القانون الدولي ضحية هذا المنطق
في ظل هذه العقيدة، يصبح القانون الدولي مجرّد ديكور. تُنتهك المواثيق باسم الدفاع عن الحرية، وتُقصف المدن باسم محاربة الإرهاب. أما المؤسسات الإنسانية، فتوصف بأنها منحازة إذا أدانت القتل. وبذلك يُلغى الضمير الإنساني لصالح منطق السوق والسلاح، وتُختزل العدالة في معادلة القوة: من ينتصر هو من يملك الحق.
هذه الفلسفة لا تمس فقط
هذه الفلسفة لا تمس فقط خصوم ترامب، بل تهدد النظام الدولي بأسره، لأنها تُحوِّل العالم إلى غابةٍ تُدار بالمصالح لا بالمبادئ. حين يصبح السلام مرادفاً للإخضاع، يفقد معناه، ويتحوّل إلى أداة استعمار جديدة. وهذا ما فهمته الشعوب، لذلك ترفض الخضوع، وتواصل الدفاع عن حقها في الحياة والحرية والكرامة.
الشعوب لا تستسلم
قد تستطيع القوة أن تفرض وقائع على الأرض، لكنها لا تستطيع أن تقتل الوعي. والتاريخ علّمنا أن الشعوب التي تُسحق تحت جنازير الدبابات، تنهض من رمادها أكثر صلابة. سلام ترامب لا يقيم دولاً بل يزرع أنقاضاً، لا يبني تحالفات بل يخلق أحقاداً. وحين ينطفئ وهج القوة، لا يبقى من “سلامه” سوى ركامٌ وذاكرةٌ جريحة.
خاتمة
إنّ مفهوم “سلام القوة” كما يطرحه ترامب ليس دعوة إلى الاستقرار، بل إلى الاستسلام الكامل لإرادته. وهو سلام زائف، ملوّث بدماء الأبرياء، لا مكان له في ضمير الشعوب الحرة. فالعالم الذي يبحث عن السلام الحقيقي، لا يحتاج إلى مزيد من الجيوش، بل إلى مزيد من العدالة.
وحين تفقد القوة بوصلتها الأخلاقية، تتحول إلى رخصة للقتل. ومن هنا، فإنّ أخطر ما في هذا المفهوم ليس القوة ذاتها، بل الشرعية التي يمنحها للعنف حين يرتدي عباءة السلام.