المسيحيون العرب مكون أصيل في تاريخ الأمة ومستقبلها

محمد قاسم عابورة  – الأول نيوز –

 

بمناسبة انعقاد مؤتمر “العرب المسيحيون : الجذور، الأدوار، والمسار النهضوي” في عمّان ، تبرز ضرورة ملحّة لإعادة قراءة التاريخ العربي  ، لا بوصفه سردية أحادية ، بل بصفته نسيجاً حضارياً مركباً ، تتداخل فيه خيوط متعددة الألوان لتشكّل لوحة وجودية واحدة ، ففي خضمّ صعود الخطابات المتطرفة والهويات المنغلقة ، يأتي هذا المؤتمر ليذكّرنا بأن الحضارة العربية وُلدت من رحم التنوع ، ويستدعي وعياً جمعياً يستعيد حقيقة أن جينات هذه الحضارة تحمل في تركيبها الأصيل مبدأ التعدد ، فالمسيحيون العرب هم مكون أساسي في البنية الجينية لهذا الكيان الحضاري ، وكانوا – ولا يزالون  شركاء مؤسسين في بنائه عبر جميع مراحله .

تشهد المنطقة العربية تحولات جذرية تطرح أسئلة الهوية والانتماء بإلحاح ، مما يعطي انعقاد المؤتمر في عمّان أهمية وقيمة مضاعفة ، إنه ليس مجرد منصة للحوار، بل محاولة جادة لإعادة قراءة التاريخ العربي برؤية متكاملة ، تستعيد فيها الأمة ذاكرتها المنسية ، وتستلهم من تنوعها قوة دافعة نحو المستقبل ، إنه استحضار لدور حيوي ظلّ لقرون حجر زاوية في بناء صرح الحضارة العربية الإسلامية ، وشريكاً أصيلاً في مسيرتها نحو التطور والنهضة .

لا يمكن فهم دور المسيحيين العرب بمعزل عن حركة التاريخ الكبرى ، فقبل الإسلام كانت القبائل العربية المسيحية تمتد جذورها في عمق الأرض العربية وامتدادها ، و جزءاً أصيلاً من نسيج الجزيرة العربية الثقافي والاجتماعي والتجاري ، ولم يكن بزوغ فجر الإسلام نهاية لهذا الحضور، بل بداية لمرحلة جديدة من التكامل ، ففي ظلّ الدولتين الأموية والعباسية ، برز المسيحيون العرب جسوراً حية لنقل المعرفة ، فنقلوا علوم الإغريق والفرس وترجموها، وساهموا بإبداع في ميادين الطب والفلك والهندسة ، مسهمين بذلك في بناء أحد أركان الحضارة الإنسانية .

إن التعمق في جذور هذا الدور التاريخي ليس هروباً إلى الماضي ، بل إضاءة لطريق المستقبل ، ففي القرن التاسع عشر، كان المسيحيون العرب في طليعة من أشعلوا شرارة النهضة الحديثة ، ولم يقفوا عند حد المشاركة ، بل كانوا الرواد في مجالات التعليم والثقافة والعلوم ،  وكانوا رواداً في عالم الصحافة والفكر، فأقلامهم لم تكن يوما طائفية ، بل كانت مشاعل أنارت درب الأمة كلها نحو الحرية والتقدم .

ولم يقتصر إسهامهم على الجانب الفكري فحسب ، بل امتد ليشكل ركيزة أساسية في المشروع القومي العربي، حيث قدموا نموذجاً للانتماء المتجذر الذي يتجاوز الانتماءات الضيقة ، فكانوا سفراء للعروبة في المحافل الدولية ، وحماة للهوية العربية في وجه محاولات الطمس ، مؤكدين أن مسيرتهم جزء لا يتجزأ من نسيج الأمة ووجدانها ، و دافعوا عن قضايا الأمة المصيرية ، فكانوا جسراً للحوار الحضاري وجنوداً في معارك التحرير، مما جعلهم شركاء حقيقيين في صنع تاريخ الأمة ومستقبلها .

غير أن هذا الإرث الحضاري الزاخر يواجه اليوم تحديات جسيمة، أبرزها هجرة الكفاءات والتراجع الديموغرافي ، نتيجة للاضطرابات السياسية وتصاعد الخطابات الطائفية ، والتحدي اليوم لا يقتصر على تشخيص العلل ، بل يتعداه إلى تقديم رؤية لمواجهتها ، رؤية تستوعب دروس التاريخ لبناء مستقبل أكثر إشراقاً ، فالحل لا يكمن في الانكفاء على الذات ، بل في التأكيد على مبدأ “المواطنة الكاملة”، والعودة إلى جوهر الانتماء للأمة ، حيث يكون الوطن الإطار الحاضن للتنوع .

مؤتمر “العرب المسيحيون” في عمّان هو رسالة تؤكد أنه لا مستقبل للمسيحيين العرب منفصلاً عن مستقبل أوطانهم ، ولن ينجح أي مشروع نهضوي حقيقي إلا بمشاركتهم الكاملة والفاعلة ، والتاريخ شاهد على أن هذه الأمة قادرة على تجاوز محنها حينما تدرك أن قوتها تكمن في وحدتها ضمن إطار تنوعها ، وهذا المؤتمر  بداية لحوار أوسع وأعمق ، يطمح إلى صياغة “عقد اجتماعي عربي جديد” يقوم على المساواة والعدالة والشراكة الحقيقية .

وعمّان هنا ليست مجرد مكان لانعقاد المؤتمر ، بل هي رمز حي للقيم التي يدعو إليها  ، فالعاصمة الأردنية بجسورها الممتدة بين الماضي والحاضر، وقلبها النابض بقيم التسامح ، تقدم نفسها نموذجاً للتعايش ، والأردن يقدم نموذجاً ملهماً في العيش المشترك ، حيث يندمج التنوع في نسيج الوطن الواحد دون أن يفقد خصوصيته ، مؤكداً أن الاختلاف ثراء وقوة ، وإن مستقبل الأمة يكمن في استعادة نموذجها الحضاري القائم على التعددية والشراكة ، وهي رسالة يبدأ شعاعها من عمّان ليعمّ أرجاء العالم العربي، حاملاً معه الأمل في غدٍ أكثر إشراقاً يقوم على الاحترام المتبادل والمواطنة الكاملة ، فَهَنِيئاً لعمّان بمؤتمرها ، وهَنِيئاً للأردن بوحدته الوطنية التي تشكل أنموذجاً يُحتذى به .

عن الأول نيوز

شاهد أيضاً

ملفات الأمانة المغلقة

الأول نيوز –  قمر النابلسي في هذه المرحلة الحساسة التي يمر بها الوطن ومع كل …