الأول نيوز – د. أحمد ناصر الطهاروه –
لم يعد قرار مجلس الأمن الأخير بشأن غزة مجرد بيان أممي يُضاف إلى أرشيف النزاع الفلسطيني، بل يمثل — بكل وضوح — إعادة صياغة لمستقبل القطاع وفق رؤية القوى الكبرى، وليس وفق متطلبات العدالة أو استحقاقات الشعب الفلسطيني.
فالقرار رقم 2803، الذي نال تأييد 13 عضوًا مع امتناع روسيا والصين، يمنح الولايات المتحدة وحلفاءها تفويضًا واسعًا لإنشاء قوة دولية مؤقتة تدير غزة حتى عام 2027 تحت شعار “الاستقرار”، لكنه في الحقيقة يُعيد إنتاج معادلة الوصاية الدولية، ويضع غزة على أبواب مرحلة سياسية غير مسبوقة.
يرحب القرار بما يسمى “خطة ترامب الجديدة” ذات النقاط العشرين، ويتعامل معها بوصفها إطارًا لإنهاء النزاع، رغم أن هذه الخطة — في جوهرها — لا تعلن صراحة حق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة الآن، بل تربط ذلك بما يسمى “برنامج إصلاح السلطة الفلسطينية”، في صياغة توحي بأن المشكلة ليست الاحتلال، بل “عدم جاهزية الفلسطينيين”.
إن إدخال غزة في مرحلة “مجلس سلام” يتمتع بشخصية قانونية دولية، ويتولى إدارة الإعمار والتمويل، يعني — صراحة — أن إدارة القطاع تُنقل من السلطة الفلسطينية إلى هيئة انتقالية خارجية، وأن مشروع الدولة الفلسطينية يُؤجّل إلى أجل غير مسمى.
القوة الدولية التي ينص عليها القرار تُنشَر تحت قيادة موحدة تقبلها هيئة مجلس السلام، بالتعاون المباشر مع إسرائيل ومصر، مع استخدام “جميع التدابير اللازمة” لتنفيذ الولاية.
وكضابط أمن سابق أرى أن القوة الدولية ليست قوة حماية للفلسطينيين، بل قوة إدارة أمنية، هدفها ضبط الميدان وفق بنود خطة أميركية—إسرائيلية، وليست وفق القانون الدولي الذي يُلزم بإنهاء الاحتلال، لا بتجميله.
فالقوة الدولية ليست بديلًا عن الاحتلال، بل بديلًا عن مسؤولية الاحتلال.
القرار يشير إلى “استكمال برنامج إصلاح السلطة” قبل تمكينها من العودة إلى غزة، وكأن السلطة هي الجهة التي تحتاج إلى الفحص والتأهيل، لا الاحتلال الذي دمّر البنية التحتية، واستمر سبعة عقود في مصادرة الأرض والحقوق.
ومن خلال خبرتي بالعمل مع قوات حفظ السلام الدولية فإن استثناء السلطة رسميًا أو عمليًا يعني تحويل القضية من قضية تحرر إلى قضية “إدارة أزمة”.
وهذه بالضبط هي الفلسفة التي حكمت الترتيبات الدولية في البلقان والعراق وأفغانستان.
في الواقع غزة ليست مشكلة أمنية حتى تُعالَج بقوة متعددة الجنسيات، بل تحتاج إلى إنهاء الحصار، لا إدارة الحصار وإنهاء الاحتلال، لا مراقبة الاحتلال، ومحاسبة المعتدي، لا إعادة إنتاج معادلته العسكرية والسياسية.
إحياء مشروع الدولة الفلسطينية، لا إحلال مجلس سلام فوق السلطة الشرعية.
إن كل قوة دولية تُنشر قبل إنهاء الاحتلال هي قوة وصاية مهما كان اسمها، ومهما كان غطاؤها الأممي.
فالعدالة الغائبة — منذ 1948 — ليست في “ضبط الأمن” بل في تطبيق القانون الدولي الذي يقر بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة.
قرار مجلس الأمن 2803 ليس قرارًا لصنع السلام، بل قرار لإدارة ما بعد الحرب وفق تصور أميركي يُسقِط جوهر القضية الفلسطينية: الدولة، والحدود، والسيادة، وإنهاء الاحتلال.
وما لم يُعَد الاعتراف الصريح بالحق الفلسطيني الكامل، وما لم تُمنح السلطة الشرعية دورها الطبيعي، وما لم يُربَط هذا القرار بجدول زمني واضح لإقامة الدولة الفلسطينية، فإن غزة ستكون أمام مرحلة جديدة من الوصاية، لا التحرر.
غزة لا تحتاج قوة دولية تُمسك بيدها، غزة تحتاج عدالة تُعاد إليها… وعدالة لا تُعطى إلا بإقامة الدولة الفلسطينية وإنهاء الاحتلال.